عرض مشاركة واحدة
قديم 03-22-2012   #4


الصورة الرمزية الغزال الشمالي
الغزال الشمالي غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 218
 تاريخ التسجيل :  Apr 2011
 أخر زيارة : 07-10-2013 (07:01 PM)
 المشاركات : 2,111 [ + ]
 التقييم :  119
لوني المفضل : Cadetblue
شكراً: 0
تم شكره 2 مرة في 2 مشاركة
افتراضي




الفصل التاسع

في المساء استيقظ عبد القيوم من إغماءته الطويلة..!
استيقظ مشوشاً.. متألماً من رأسه.. ثقيل الجسد.. تحز رجليه ويديه قيود من الحديد.. كان يرجو أن يكون

الوقت نهاراً، لكن ظلام الحجرة التي استيقظ فيها خيّب ظنه..
وتذكر تدريجياً ما حدث قبل غيبوبته.. تذكر جيداً رئيس الحرس وهو يعصر جبينه ويضرب الجدار برأسه..
وشعر بصداع..تلفت حوله.. كان رفاقه معه.. وكان بعضهم مستلقياً.. وبعضهم يحتبي في كآبة..
وجر جسده واستند إلى الجدار.. وجاءه صوت جابر من جانبه:
- هل استيقظت يا عبد القيوم؟
- نعم.. لكني أحس بآلام في رأسي.!
اغتصب جابر ابتسامة وقال:
- أنت لم تشعر حين نقلوك إلى هنا..
- ما هذا المكان المظلم.. حتى النوافذ لا توجد به.. سجن؟!
- نعم.. هذا سجن المدينة.. سجن قانين.. الذي هرب منه المنذر وعبد الرحمن.
- الحمد لله على قضائه يا جابر.
- إنها مصادفة.. أن نأتي لإنقاذ السجناء فنقع فيما وقعوا فيه!!
- من الذي معنا هنا.. أنا لا أكاد أرى أصبعي؟!
- الجميع هنا.. لم يقتل منا سوى واحد فهم كانوا حريصين حقاً على إبقائنا أحياء.
وتحدث مالك الفهري بضيق:
- لقد وقعنا في أسر لا خلاص منه.
فقال عبد القيوم:
- أنا لم أصلّ منذ فقدت رشدي.. في أي وقت نحن؟
رد جابر:
- في منتصف الليل.
- لقد أطلت المدة.. ألا يوجد هنا ماء لأتوضأ منه؟
- هناك ماء في الزاوية.
بعد ساعة كان عبد القيوم قد قضى فوائته.. وعاد يتلمس طريقه إلى مكانه الأول. وقد سأل جابراً:
- حدثني عن القتال.. وهل نلتم من الخبيث؟
فقال جابر:
- لقد احتربنا كما رأيت وتقاتلنا أشد ما يكون.. فتقاطروا علينا من كل جهة.. وتكاثروا علينا.. وكان

الفناء ضيقاً.. وقد أردنا التراجع وصحت للرفاق بذلك
وعندما هممنا بذلك كانت مجموعات منهم تسد علينا المنافذ وقد حجزنا في الفناء فلم نملك إلا
مواصلة القتال فكانوا يقذفون سيف أحدنا ويبقون عليه حيّاً..
حتى أسرونا بهذه الطريقة.
- وأنت ألم يمكّنك الله من شيوم؟
- إنه شديد البأس.. وكدت أنال منه إلا قليلاً.. وكل ما قيل عن جلده وقوته ليس من المبالغة.. وقد

كان خطأ مني أني واجهته وحدي وكان الأولى أن ينضم إليّ ثلاثة أو أربعة من الرجال.. إنه لا يطاق!
- ألم يحضر معكم صالح بن حذيفة؟
- لقد تركته عند يوسف ورفيقه يحرسهما.. ويعتني بالخيول.
- ماذا فعلت بهما؟
- ربطنا أيديهما من خلاف.. وقيدنا أرجلهما.
الحمد لله أنك لم تحضره معك.. إنه مازال يافعاً رغم أنه شجاع وجرئ.
استلقى عبد القيوم على أرض السجن التربة وما لبث أن نام إلى الفجر واستيقظ

ليجد أن آلام رأسه قد خفت.. وقد استيقظ الجميع على صوت
طبول تقرع وعندما ارتفعت الشمس.. تعالت في السجن ضجة وصهيل خيول ثم فتح
الحبس الذي يقيمون فيه ودخل عليهم عشرات الجنود..
وساقوهم تحت ضرب السياط إلى خارج السجن ثم ركبوا خيولهم والرجال يسيرون على أقدامهم
حتى وصلوا الساحة التي أمام بوابة قصر شيوم. وهناك كان الناس مجتمعين بعضهم يجلس في الظلال
الطويلة لسور القصر، ينتظرون وصول الأسرى.
وقد فرش بساط كبير ووضع في وسطه كرسي رفيع.. جلس عليه شيوم بثيابه الفاخرة..

ولحيته القصيرة.. ورأسه الحليق وقد تدلت أقراطه من أذنيه..
وكان يمسك في يده صولجاناً أَخْضَرَ قصيراً برأس مذهب.. يضرب به كفه
في رتابة، وقد تجلى في عينيه غضب عارم وقسوة بالغة!
وعلى رأسه وقف رئيس الحرس كالصنم ممتلئاً ظفراً وغروراً، وكانت نار عظيمة قد أوقدت

ثم تناقص لهبها وتحولت إلى جمر ملتهب، وعندما وقعت عيون
الرجال عليها سرت القشعريرة في أجسادهم ولم يقل بعضهم لبعض شيئاً فالوجوم قد ألجم أفواههم،
إلا أن عبد القيوم الراضي دائماً المقتنع بكل الأحوال قال:
- الجو هنا ألطف من داخل الحبس.. لقد تخلصنا من هوائه الفاسد.
فعلق مالك في غاية التشاؤم:
- لقد تخلصنا من الهواء الفاسد لنقع في سموم هذه النار!
رد عليه عبد القيوم متكدّراً من كلامه:
- لا تقل هذا يا رجل.. الذي خلقك قادر على أن ينجيك!
- ما أبعد النجاة.. ألا ترى إليهم كيف يسجرون النار من جديد..؟
- لقد جئت من بغداد وأنت تعلم أيّ شيء قدامك.. فأعظم ثقتك بربك.. ولا تظهر الجزع أمامهم!
وقال جابر:
- الطاغية أراد للعقاب أن يكون مرهباً للجميع.. لقد جاء الناس من أماكن بعيدة.
نهض شيوم من كرسيه بهدوء واقترب من أسراه الذين أجلسوا متراصين.. وجعل يتفرّس في

وجوههم بنظرات نمر ينتقي فريسته.. ثم قال موجهاً كلامه لكل من في الساحة:
- إن سيدي الخان الأعظم.. ذا الهيبة العظيمة.. لا يرضيه أن يثير الفتن شرذمة قليلة من المحتقرين..

وإن ما قام به هؤلاء الأعراب اللصوص قدح في مقامه السامق.. وتناول بالعبث
سلطانه المرهوب.. وستعرفون يا أهل قانين وما حولها كيف
نعاقب من ثار على الخان الأعظم.. وتطاول على مجد المغول العريق.. لقد هاجم الأشرار القصر مرتين..
وقتلوا الجنود بعد خطف صاحبهم.. وسترون عقابهم وليكن في ذلك عبرة للمعتبرين.!
ثم جلس على كرسيه.. وشحبت وجوه الرجال.. وتكلم الترجمان مفسراً كلامه بالعربية ثم بالفارسية.
وقال شيوم:
- ابدءوا بهذا..
وأشار إلى أبي موسى.. فقام عشرة جنود يعرفون ماذا عليهم أن يعملوا وأحموا سهاماً بعددهم في الجمر..

وقام جنديان إلى أبي موسى الذي علته صفرة الموت وأوقفوه.. وشد الجنود العشرة سهامهم المحماة..
فصاح بعض الجنود الذين يقفون خلف شيوم.. والذين لم تعجبهم هذه الطريقة الرحيمة:
- هذا من أشدهم.. نريد أن تُسعَر عليه النيران.. لقد قتل..
قاطعهم شيوم ملتفتاً نصف التفاتة:
- اخرسوا.
فسكتوا في الحال، وصوبت السهام تجاه أبي موسى وأطلقت فصرخ صرخة مكتومة ثم تهاوى إلى الأرض

كالأسد المصاب من السهام المرتكزة العالقة به.. وقد فاحت من جسده رائحة الشواء.
لم يملك جابر دمعته.. فقرأ له عبد القيوم:
- الّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مّصِيبَةٌ قَالُوا إِنّا لله وَإِنّا إَلَيهِ رَاجِعُونَ.
فقال جابر:
- ما أبكي إلا حزناً عليه.. لا جزعاً.. إنه من أعقل الرجال.
وتصايح الناس عند هذه البداية طالبين الكف عن مواصلة العقاب.. فوقف شيوم وحَدَجَهُم بنظراته التي

يعرفونها فارتعبوا وسكتوا.. كانت نظرة واحدة كفيلة بإسكاتهم.. لكنه خاطبهم:
- كفى.. اصمتوا.. وإلا لحقتم به.. كل واحد منهم سينال عقابه.
واقتاد الجنود ياقوت الفارسي.. فتقدم وقد لاحت في عينيه المعتوهتين نظرات الهزيمة والقهر..

وبدا منظره مرعباً.. وعندما مثل بين يدي شيوم خاطبه ساخراً:
- إذاً فقد تجرأت علينا ثانية أيها الوغد.. ولم تكفك تلك الحروق التي في جسدك حتى جئت تطلب الموت..

إنك تنسى الألم بسرعة.. وستلحق بجرائك وكلبتك العاهرة.
ولم يتحمل ياقوت رؤية عدوه القديم يتبجح أمامه.. فهمهم ببعض كلمات فارسية.. وانقض على شيوم مطوقاً

عنقه بالسلسلة التي تربط يديه وجعل يخنقه بها.. حتى سقطا معاً على الأرض.. فهجم بضعة
جنود لتخليص أميرهم فسحبوا ياقوت عنه لكنه لم يفلت عنقه بل سحبه معه!
وتعالى سعال شيوم بشدة فما كان من الجنود إلا أن أغمدوا أسيافهم في جسد ياقوت الضخم.
وعندما ارتد شيوم إلى كرسيه جعل يتحسس عنقه والجنود يجرّون

جثة ياقوت بعيداً عنه.. وأراد أن يفرغ غضبه فصاح:
- تبّاً لكم.. أين كنتم؟.. أحضروا زعيمهم.. وليرني قوته الآن.
وسيق جابر وأعطي سيفاً وفكت قيوده.. وقال له الترجمان:
- الأمير يقول لك بارزه.
واستعجب جابر من هذا الطلب فهو قد هُزم أمام شيوم وهو في غاية القوة فكيف يريد مبارزته وهو منهك..

وعرف أن شيوم يريد رد اعتباره بسبب ما ألحقه به ياقوت من السخرية.. وشد جابر السّيف
وصاوله وهو يشك في ثباته طويلاً لكن لم يرد أن يوصم بالجبن والضعف.. وبعد لحظات
أطار شيوم السيف من يده ورفع سيفه عالياً.. ثم خفضه فقال رئيس الحرس متمماً لعبة سيده:
- اقتله يا سيدي.. انتقم من عدوك!
فرد الأمير شيوم في كبرياء طاغية بكلام لم يفهمه جابر، حتى قال الترجمان رافعاً صوته حتى يسمع الناس:
- الأمير يقول إنه لن يدنس شرفه بقتله وهو منهوك عاجز.. ولو كان في ساحة القتال فسيرى كيف ينتزع روحه.
وأغمد شيوم سيفه وانقض على جابر يلطمه حتى أدمى فمه، ثم قال:
- ألقوه في الجمر.. ليس كفؤاً لسيفي.
ولما رأى عبد القيوم ما يحل بصديقه.. غضب غضباً حزيناً.. ولم يتمالك نفسه فصاح واقفاً بلغة مغولية:
- يا متوحش.. الأرواح بيد الله هو الذي ينتزعها متى يشاء.. قاتلني وأنا من سيهزمك ويحتز عنقك..
والتفت إليه شيوم، وقال رئيس الحرس:
- إنه منظف الحشوش الخائن يا سيدي.
فقال شيوم:
- قيدوا هذا يا لاتو.. وأحضروا الخادم.
ولما جاء عبد القيوم عند شيوم كان غاضباً أكثر منه وجلاً فحدجه بنظرات مزدرية متحدية.. فقال شيوم:
- ما كنت لأعف عن قتل القائد لأنه متعب عليل.. وأدنس شرف سيفي بدم كانس مراحيض مثلك.
فقال عبد القيوم:
- لم تستمر في طغيانك.. فمهما طال زمنك.. فلابد أن يأتي يوم تعرف فيه أي ضعيف أنت!
فقال شيوم:
- لقد وضعت فيك ثقتي.. فخنت يا طبوتي.. وانضممت إلى هؤلاء البؤساء متنكراً لعشيرتك

وبني قومك ستعاقب بما يليق بوضيع مثلك.
وبلغ السرور مبلغه بأوسطاي الذي كان قريباً. فهتف:
- لتمت أيها الغادر..
فنهره شيوم:
- اخرس يا أوسطاي.
ثم خاطب الجلاد:
- اخلع ثيابه.. واجلده.. ثم اسلخه وألقه إلى الجمر.. هذا أقل ما يستحق.
وتعلقت عيون الناس بالجنود الذين شرعوا في خلع قميص عبد القيوم.. ثم احْتوَشُوه وشدّوه إلى

خشبة مغروسة في موضع قريب من شيوم.
وحنى رفاقه رؤوسهم حزناً لاسيما جابر فقد زادت محبته في قلوبهم لتدينه وأخلاقه.
ورفع الجلاد سوطه وأهوى به إلى صدر عبد القيوم فأطبق فكيه تجلداً.
ثم أهوى عليه ثانية وثالثة.. وما كاد شيوم يتأمل جسده الرشيق حتى صاح بطريقة غريبة:
- توقف.. توقف!
ودهش الجلاد ودهش الجميع بما فيهم عبد القيوم المتألم ورفاقه!!
وتنحى الجلاد عن شيوم الذي قام من كرسيه.. وفمه نصف مفتوح واقترب من عبد القيوم ومسح ظهره

وشعره المتهدل وتلمس صدره المشعور بأصابعه الفاترة.
فقال عندها عبد القيوم وهو يطبق على أضراسه:
- اغرب عن وجهي يا لعين.. هل أشفقت علي؟! لست في حاجة إلى شفقتك!!
ولم يرد أن يضيع الفرصة الساخنة باقتراب شيوم.. فجمع نفسه وبصق في وجهه.. وركله ركلةً منعتها

القيود أن تكون بالغة.. وما كاد يفعل ذلك حتى صفعه رئيس الحرس بشدة!
وتوقع الجميع أن ينهي شيوم حياة عبد القيوم بسيفه أو يكبه بنفسه في الجمر الملتهب..

لكنه ظل صامتاً.. شبه ذاهل.. وأشار إلى رئيس الحرس بالابتعاد..
وسلّط نظراته الغريبة في وجه عبد القيوم الذي قال متصاعد الأنفاس:
- ابتعد عني.. واقض ما أنت قاض.
وهنا تمتم شيوم:
- طبوتي!! طبوتي!! من قبائل اليوتا!!
فأضاف عبد القيوم:
- لتعلم أني تسللت إلى قصرك لا لحمايتك أو العمل عندك..

وإنما لأفتك بك يا عدو الله و سأفعل لو أتيح لي ذلك.!
وظهر للجميع أن الأمير غير عابئ بما يتفوه به هذا الأسير الذي يتراقص له الموت من مكان قريب..

فقد عاد يتلمس صدر عبد القيوم وعنقه و وجنتيه.. ثم عاد إلى كرسيه مطأطأ الرأس..
وقد خبت جذوة نظراته الوحشية.. ونادى رئيس جنوده قائلاً بصوت خافت:
- اسمع يا لاتو.. خذ الأسرى وعد بهم إلى السجن.. وادفن هذه الجثث بعيداً.. واصرف الناس حالاً.
وكما دهش الجميع دهش رئيس الحرس الذي ساءه هذا الإجراء حيث حرمه من الاستمتاع بالمزيد من مشاهد

التعذيب.. لكنه لا يملك غير الطاعة، فطفق ينفذ ما أمر به.
وعندما قام الرجال ليعودوا إلى السجن مر جابر بالقرب من عبد القيوم وقال:
- اصبر يا عبد القيوم.. سنلتقي في الجنة إن شاء الله.
فرد عبد القيوم في دهشة:
- ليتني أدري ما أصابه.. أعتقد أنه يريد قتلي بطريقة ما !!
وعندما بدأ الناس ينصرفون.. دنا رئيس الحرس من سيده العابس وقال:
- وهذا اللعين.. هل أدفعه إلى الجمر.. أم أعلقه برجليه؟
أجاب الأمير بصوت لا يكاد يسمع:
- خذه إلى القصر.. وسألحق بك.. سأعاقبه بنفسي!!
وحبس عبد القيوم في إحدى غرف القصر.. كان قلقاً.. يتمنى لو أنهم حبسوه مع رفاقه..

وقد لبث في حبسه متوجساً..مرهفاً سمعه لأي صوت.. تمر بخاطره أنواع العذاب التي يمكن أن
ينزلوها به.. وعجز هذه المرة عن مدافعة الوجل..
وتسللت إلى فؤاده بوادر الوحشة.. لاسيما وقد أصبح وحيداً.. وتمثلت لناظريه أزقة بغداد التي جال فيها..
وتمنى لو يطير إلى الجامع ببغداد ويصلي فيه ركعتين يودع بهما الدنيا ويجعلهما آخر
عهده بالحياة.. لم يكن آسفاً على الدنيا.. لكن أضجره أن يقتل عاجزاً..
أسيراً.. ويظلّ الطاغية يخوض في دماء المسلمين!
وعند الظهيرة فتح عليه الباب جنديان وانتهراه:
- قم لمقابلة الأمير.
وقام معهما فسارا به في ردهات القصر الواسع حتى وصلا إلى مقصورة الأمير شيوم.. كان بابها

مفتوحاً وشيوم جالسٌ على سرير نومه.. فأدخلاه وخرجا مغلقين الباب خلفهما.
كانت الغرفة قد رتبت وأصلحت بعد البعثرة التي أصابتها أثناء القتال..

وقد استبدل الباب المخلوع بباب آخر جديد.
ظل شيوم جالساً على سريره لا ينظر إليه.. وقد زاولته وحشيته.. وبدا سارحاً غارقاً في تفكير غامض..

واستغرب عبد القيوم من تصرفه هذا.. وبحث عن شيء ليقوله فلما لم يجد شيئاً آثر الصمت..
وبعد مدة دخل جندي يحمل إناءً وناوله لشيوم الذي قال:
- اخلع ثيابه.. واخرج!
واستسلم عبد القيوم للجندي الذي شرع ينزع عنه ثيابه حتى إذا لم يبق

عليه سوى سراويله الواسعة تركه وخرج مغلقاً الباب..
وتسارعت دقات قلبه.. ولم يعد قادراً على منع أطرافه وجسده من الارتعاش

وعندما استقام شيوم واقفاً قبالته.. تصاعد الدم إلى وجهه..
وسرت الرعدة إلى فكه.. وشَرّقَتْ به الظنون السوداء وغرّبت.. وهيأ له ذهنه المضطرب أن شيوم
سيقتله قتلة بشعة أو يمثل بجسده فقال بصوت مبحوح وهو يجر الحروف من حنجرته جرّاً:
ليس هذا من أخلاق الفرسان..!؟
فقال شيوم بصوت متهدج عميق:
- لا تخف يا طبوتي.. فأنا فارس وأحترم الفرسان.
ثم أدخل يده في ثيابه وأخرج خنجراً لامعاً من طراز فارسي وغمسه في الإناء الذي لم يشك

عبد القيوم أنه سُمّ.. واقترب منه فتمتم عبد القيوم بالشهادتين ورفع وجهه إلى السقف
وأغمض عينيه.. وجعل ينتظر الخنجر أن يغوص في كبده.!
لكن شيئاً من ذلك لم يحدث! بل شرع شيوم يحلق صدره من الشعر الخفيف النابت بخنجره!! ولما بلغ النصف

من ذلك.. توقفوهو يتفحص عبد القيوم بنظرات تحمل وجداً واضحاً. ثم اعتراه ذهول
وجعل يتحسس صدره وشعر رأسه ووجنتيه كما فعل في الساحة صباحاً!! ثم جعلت شفتاه تتحركان
بهيئة من يوشك على البكاء وصاح لحارسه الذي دخل
فوراً لتلقي الأوامر.. وقال له وهو يواجه الجدار:
- أخرجه إلى حبسه!
وتنفس عبد القيوم الصعداء وهو يساق خارجاً من مقصورة الأمير شيوم والممرات

تردد صدى صوت سلاسله الغليظة.. وعندما أغلق عليه
باب الحجرة طفق يفكر.. هل يظنه شيوم عدواً له قديماً.. إنه يكرر اسمه "طبوتي" فهل عدوه
اسمه "طبوتي" هل خرج من مصادفة "اليوتا" ليقع في ورطة "طبوتي"؟! وإذا كان يظنه عدواً
فلماذا لم يجهز عليه في الحال؟! ولماذا يختبئ به في غرفته الخاصة!؟
وبقي يتقلب على نار الشك والحيرة.. ويتوقع أن يستدعى في أية لحظة.. وعندما حل العصر قضى صلاته..

وما كاد يفرغ حتى قعقع باب الحجرة فعلم أن الأمير أرسل له الجندي ليحضره.. لكنه فوجىء بشيوم نفسه!!
كان وحده.. وكان هادئاً مكدّراً.. وربما حزيناً.. وقبض على يده صامتاً وساقه عبر ردهات القصر

متجهاً إلى مقصورته.. وسط دهشة الجنود المتناثرين هنا وهناك.. وزاد في دهشتهم حين كان طبوتي
يسير والأغلال تعيق حركته.. والأمير يمشي خلفه متهادياً مراعياً قيوده..
فتعثّر طبوتي فانحنى أميرهم في لطافة ليساعده على الوقوف.. إنهم يعرفون غطرسته وعدم تواضعه
فكان هذا التصرف تجاه منظف الحشوش الخائن مدعاة للاستغراب!!
وفي داخل المقصورة أغلق شيوم الباب على نفسه وعلى أسيره.. وقد تسارعت دقات قلب عبد القيوم

حين رأى على الأرض نطعاً من الجلد مفروشاً وفوقه قطعة خشب كبيرة
مرتفعة، داكنة اللون من كثرة الدماء المتيبسة عليها!!
وعلى طرف النطع فأس صغيرة تشبه تلك التي يقطع بها أحطابه إلا أنها قصيرة المقبض!
وأجلس شيوم أسيره فوق النطع.. قبالة الخشبة.. وقد اتكأ عبد القيوم بيديه على الخشبة فامتدت

سلسلة يديه على عرض الخشبة، وتناول شيوم الفأس وجعل يسنها على حديدة معه ولما اطمأن
إلى حدة شفرتها.. لبث فترة صامتاً.. ثم رفع يده في الهواء..
وفعل عبد القيوم فعله السابق.. أغمض عينيه ونطق بالشهادتين واحتسب روحه عند الله!!
وصرخ شيوم بآهة قصيرة كئيبة ثم قذف فأسه بمهارة مروعة تجاه عبد
القيوم، لتنغرز في الخشبة وتقد السلسلة التي تربط يديه!!
وارتعب عبد القيوم من تلك المهارة.. وتلك الصرخة!! ورفع عينيه إلى شيوم وكم كانت

دهشته بالغة حين رآى مآقيه تفيضان بالدمع.. وحين رآه يمد يده إلى زنده وينهضه قائلاً في حزن:
- قم يا "طبوتي" قم يا صغيري!!
ثم أصبح عاجزاً عن الكلام حين أضاف بلغة عربية سليمة:
- عبد القيوم.. أخيراً التقينا..!!
وانقض عليه يضمه بشدّة ويقبل كل جزء في وجهه.. ويربت على ظهره في مودة حقيقة!!
وبعدها تذكر عبد القيوم ما يمكن فعله.. فهذا الذي يعتنقه كائناً من كان.. هو شيوم الطاغية..

الذي طبقت شهرته الآفاق في القسوة والظلم.. لذا فقد دفعه حتى ارتطم بالسرير وهتف في وجهه عابساً:
- ابتعد عني.. كائناً من كنت.!
قابل الأمير شيوم هذه الشراسة بابتسامة وهو يقول:
- أنا أخوك يا عبد القيوم.. المصادفة وحدها جمعت بيننا!!
ذهل عبد القيوم عن أن يقول شيئاً.. وارتخت شفتاه وزاولهما العبوس..
وتكلم شيوم وقد طمست البهجة وحشية ملامحه:
- لقد كبرت يا عبد القيوم و أصبحت رجلاً.. عندما رأيتك لأول مرة في الحديقة خفق قلبي

وأحسست أني أعرفك.. لكني قلت ربما هو يشبهه.. ولم أكن متأكداً فطردت الشكوك..
وكنت أجد شيئاً يشبه الأنس كلما رأيتك تكنس بمجرفتك وكنت أراقبك من بعيد
حتى لا يقول الجنود إن الأمير شيوم يتقرب إلى خادم ينظف المراحيض.. وعندما حدثت هذه المداهمة
والقتال زاولني هذا الشعور.. واستسلمت لما تمليه السياسة والحزم.. ولكن عندما رفعت
عنك الثياب هذا الصباح.. لم أشك أنك شقيقي الذي خلفته في
بغداد، وقد أردت المزيد من التأكد.. وكنت أعرف شامتك التي في صدرك.. وقد تمنيت
أني لم أرك في هذه الحال..لكني أسامحك فأنت شقيقي.. أنت شقيقي يا عبد القيوم بن حسنة..!
وغمغم عبد القيوم بالكلام:
- هل تعني أنك محمد؟!!
- أنا محمد.. أخوك الذي هرب غاضباً في تلك الليلة وفر إلى مصر.
ـ ألم تقتل في حانة؟!
- هذا ما قيل.. وهذا ما أحببت أن يشاع.. والحق أني كدت أقتل وأموت.. فقد طعنني أحدهم..

لكنني استخفيت حتى شفيت جراحي.. وتركت مصر والتحقت بقومنا المغول.
وبلا إرادة منه جف قلب عبد القيوم.. وألقى بنفسه بين يدي أخيه يعانقه عناقاً مرتبكاً قلقاً..

وهو لا يرى إلا صورة أخيه الضائع المفقود.. وغابت عن ذهنه صورة شيوم
سفاك الدماء.. ومعذب المسلمين!! وتمتم بأسى:
- رباه ما هذا الامتحان!؟


يتبع











 
 توقيع :
قال تعالى {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً }النجم28

دائما النية الطيبة لاتجلب معها إلا المفاجآت الجميلة
لاتغيروا أساليبكم فقط غيروا نياتكم فعلى نياتكم ترزقون


التعديل الأخير تم بواسطة الغزال الشمالي ; 03-22-2012 الساعة 02:42 AM

رد مع اقتباس