عرض مشاركة واحدة
قديم 01-25-2024   #6


الصورة الرمزية عبد العزيز
عبد العزيز غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 4049
 تاريخ التسجيل :  Oct 2022
 أخر زيارة : منذ أسبوع واحد (07:26 PM)
 المشاركات : 16,445 [ + ]
 التقييم :  11208
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Cadetblue
شكراً: 8
تم شكره 207 مرة في 125 مشاركة

اوسمتي

افتراضي السر (الفصل الأول 1) :




أشرقت الشمسُ ودخلتْ أشعتها مع النافذة وامتلأ المنزلُ بالضياء فاستغربتْ درلفر من تأخر زوجها برلنور فذهبتْ إلى غرفته فوجدته واضعاً كفيه على خديه وينظر إلى طائرٍ صغيرٍ خلف النافذة فتقدمتْ إليه وجلستْ على حافة السرير وقالتْ: ما الذي دهاك يا زوجي العزيز ؟ ولم أنتَ اليوم على خلاف العادة ؟
نقل بصره من النافذة إليها ثم أطرق برأسه وصمت .
أعادت السؤال مرة أخرى : ما الذي دهاك يا زوجي العزيز ؟ ولم أنتَ اليوم على خلاف العادة ؟
رفع رأسه ونظر إليها مليَّاً ثم قال : دعيني في الفراش قليلاً فإني بحاجةٍ إلى بعض الراحة ولا أودُّ مُبارحة الغرفة .
عجبتْ درلفر من هذا الأمر وسكتتْ على مضضٍ وخرجتْ وأغلقت الباب خلفها ثم اتكأتْ عليه وسرحتْ بخيالها إلى تلك الليلة التي دخلتْ فيها إلى العلية فوجدته يُقلِّبُ أوراقاً بين يديه فذعرتْ عندما مر هذا بخيالها ثم مسحتْ دمعةً ترقرقتْ رغماً عنها وذهبتْ إلى المطبخ لإعداد الفطور وعندما انتهتْ ذهبتْ إلى زريبة الحيوانات فأخذتْ ما وجدته من بيض الدجاج فوضعته في سلَّةٍ معها ثم وضعت الإناء الذي معها وبدأتْ تحلب الماعز لإعداد الجبن الذي أوشك على النفاد وقد تناثر البعضُ منه بسبب رعشة يديها وسهوها .
عندما انتهتْ من الحلب حملت الإناء وخرجتْ ، وأوصدت الباب ، وأحكمتْ إرتاجه ، ثم اتجهتْ إلى المنزل حاملة ما معها .
كانتْ تمشي بخطى متثاقلة وكادتْ تعثر بحفرة بسبب شرودها ولكنها سلمتْ ووصلت المنزل وولجتْ إلى الداخل فوضعتْ ما معها ووجدت الفطور على المنضدة لم يُمس فاتجهتْ إلى المخدع فوجدتْ زوجها مطرقاً برأسه كما عهدته في أول الصباح فجلستْ بجانبه ومررتْ يدها على شعره وقالتْ بدلال : لم أنتَ على غير العادة يا زوجي العزيز ؟ هل أصابك مكروهٌ ؟
نظر إليها فرأى غلالةَ حُزْنٍ رقيقةٍ تُخَيِّمُ على وجهها فأطرق برأسه وصمت فلما رأتْ درلفر هذا قالتْ له : أَأُحْضِرُ لك وجبة الإفطار هنا ؟
قال لها : لا ، لا حاجة لهذا سأتناوله بعد عودتي من الحقل .
ثم نهض فنهضتْ على إثره ولما سمعتْ صرير الباب يُغلق وصوت خطوات تَبتعد تهاوتْ على أقرب كرسي إليها وانسابتْ دموعها خشية أن يكون زوجها قد صبا قلبه إلى غيرها وهي الوردة التي لم تتفتَّحْ أوراقها إلا له ، ولم يعبقْ أريجها إلا عنده ، فكيف يجازيها هذا الجزاء ، وكيف يخونها في مشاعره وهي التي أخلصتْ له ؟
عندما وصلتْ في تفكيرها إلى هذا الحد عيل صبرها فردَّدتْ قائلة : الرجال لا أمان لهم ولا عهد .
ثم خرجتْ إلى الحقل تمشي بحذر خشية أن يراها زوجها فكانتْ تختبئ خلف الشجر حتى وصلتْ إليه فأجالتْ ناظرها فيه فلم تره فبحثتْ في جميع أنحائه فلم تجده فذهبتْ إلى زريبة الحيوانات فوجدت الباب على حاله عندما أوصدته فجلستْ تحت شجرة الصنوبر تُكفكف عبراتها ، وتلم أناتها وزفراتها ، وتسرح بخيالها بعيداً إلى أن زوجها قد تزوج عليها وهو الآن مع ضرتها ، يُضاحكها ، ويُداعبها ، وهكذا الأنثى عندما تغزو قلبها الغيرة وتعيث فيه ، يعزب عنها الصبر ، وتجافيها السكينة ، وتضحي كالريشة في مهب الريح ، تتقاذفها الأفكار يمنة ، وترميها الظنون يسرة ، فلا تستقرُّ على فكرٍ ، ولا تثبتُ على رأيٍ ، وما قوَّضَ سعادة زوجين ، وجلبَ عاصفَ الهمِّ ، وقاصفَ الفراقِ مثل الغيرة الزائدة في غير محلها ، والشك الذي لا أساس له .
رفعتْ رأسها إلى السماء فرأتْ طائرين يغردان ويتمسح أحدهما بالآخر فثبتتْ بصرها عليهما ولم تزغْ عنهما ثم قالتْ : كم أحسدكما على هذه السعادة التي تكتنفكما فلا تخشيان غدراً وخيانةً أما أنا فكما تريان أنثى مكسورة تأكلها الغيرة وتخشى عاقبة عزوف زوجها وتدثره بجلباب الصمت والوحدة .
لم يَطُلْ بها الوقتُ بعد هذا الحديث إلا وصوتُ زوجها ينادي : درلفر درلفر أين أنتِ يا درلفر ؟
لم تُجبْ على ندائه بل تركته يعيد النداء ويكرره حتى سئم فأتى يبحث عنها فوجدها تحت شجرة الصنوبر تذرف الدموع الغزار فمسح دموعها بيده وقال: ما الذي دهاكِ يا زوجتي العزيزة ؟ وما الذي دعاكِ إلى البكاء والنحيب ؟
لم تُجبْ على سؤاله بل وضعتْ خدها على كتفه وبدأتْ بالبكاء والنحيب فأشجاه هذا الأمر وسألها : أتخفين عني ما يشجيكِ ؟ أم أنكِ لا تريني أهلاً لأن أحمل الهمَّ عنك ِ؟
رفعتْ رأسها وقالتْ : إنما هو عارضٌ صحيٌّ ألمَّ بي هذا الصباح ولعلي أذهب لميريرا فهي خبيرة بالعلاج بالأعشاب فلا تأس ولا تحزن فإنما هو ألمٌ عارضٌ وسيزول قريباً .
أظهر الابتهاج وأمسك بيدها وذهبا إلى المنزل ليتناولا الفطور (ولم يعلمْ أن زوجته تُخفي ألمها وشجنها عنه ، وقد عزمتْ على أمرٍ ستنفذه متى سنحتْ لها الفرصة ولن يحولَ شيءٌ أمام ما عزمتْ عليه) .
وصلا المنزل فدخلا واتجه برنلور إلى العلية أما درلفر فاتجهتْ إلى المطبخ لتسخين الفطور وفي العلية كان برلنور يتساءل عن سبب شجن زوجته درلفر ودموعها .
أطال التفكير ولم يعرف السبب ثم أفاق من شروده على صوت درلفر تدعوه إلى الفطور فنزل على عجل واتجه إلى غرفة الطعام وجلس على المائدة وبدأ الأكل وكان يختلس النظر بين الفينة والفينة إلى درلفر فيراها ساهية عازفة عن الأكل وقصعتها لم تأكل منها لقمة فسألها قائلاً : لماذا لم تأكلي لقمة واحدة ؟ ولماذا الشرود بادٍ عليكِ ؟ أهناك خطبٌ ما تخفينه عني ؟
ردتْ عليه قائلة : ليس هذا بالأمر المهم إني أشعر ببعض الفتور من فجر هذا اليوم وكما قلتُ لك قبلاً سأذهب إلى ميريرا فهي خبيرة بالعلاج بالأعشاب .
أجابها والقلق بادٍ عليه : سأوصلكِ إليها بعد ما ننتهي من تناول الفطور .
قالتْ له : المكانُ قريبٌ ولا حاجة لهذا .
صمتَ على مضضٍ ولم يشأْ مجادلتها في هذا الأمر البسيط كي لا يزيد ألمها وبعدما انتهيا خرج إلى الحقل ولكنه لم يفعلْ أي شيء بل استلقى تحت إحدى الأشجار وبدأ يُحدِّثُ نفسه بصوتٍ مسموعٍ : يا ترى ألهذا الذي حدث في الصباح علاقة بالحلم الذي تكرر ثلاث ليالٍ متتالية ؟
لا ، لا ، لا ، يستحيل هذا فالعارضُ الصحيُّ لا علاقة له بالحلم الذي رأيته .
ثم يصمت وينظر إلى السماء ويطيل التأمل ثم يقول : بل العلاقةُ بينهم وطيدةٌ فكما أرى أن تلك السحابةَ التي أظلتني ، والغرابَ الذي نعبَ فوق الأيكة العارية لها شأنٌ بما يحدث ؟
نعم ، العلاقةُ بينهم وثيقةٌ فالغرابُ أسودٌ ، والسحابةُ داكنةٌ ، والأيكةُ قد حتَّ ورقها ، ولكننا في الصيف وورق الأشجار يتساقط في الخريف .
ثم يصمتُ قليلاً ثم يقول : إني أكاد أجزم أنها أضغاثُ أحلامٍ لتناقضها ، أم أن الغموض اكتنفها فاستعصى على عقلي فك رموزها .
أطال التفكير وأكد ذهنه ليحل رموز الحلم ولكن الأمر أعياه فأغمض عينيه وشعر بشيء يُطيفُ بقلبه وحرارةٍ بدأتْ تستعر فيه فوضع يده عليه وقال : قد أشقيتني في عهدٍ مضى فهل ستُعيدُ ذلك الشقاء والشجن اللذين أمضَّاني وأقضَّا مضجعي ؟
ثم نهض واتجه إلى المنزل يجر قدميه جرَّاً وهو يرى في الأفق بوادرَ عاصفةٍ هوجاءَ تُنذرُ بالخطر ودخل واتجه إلى العلية وأوصد الباب خلفه وأخرج عدةَ قصاصاتٍ من الورق وقرأ أولها فإذا مكتوبٌ فيها : كنتُ أعبر سككَ الدنيا وأزقتها وحيداً ، أُسامرُ الشَّجنَ ، وأُخادنُ الوحدةَ ، وأثناء مسيري بزغتْ شمسُ حبكِ ، فأضاءتْ ظلمة دنياي ، وأزالتْ شجني ، وملأتْ قلبي أُنساً وسروراً ، فأممتها ، وغذذتُ السير إليها ، غير عابئٍ بغيرها من النجوم ، ولا آبهٍ بما يمضي من أعوام عمري ، إلى أن نَمتطي فرسَ الحُّبِّ ، ونَجْتازَ مَفَاوزَ النَّأْي ، ونعلو فوق سُحُب البين ، ونبني قصرَ الوصْلِ ، ونتكئ على أرائك اللقاء ، وننصب عرش السعادة لتجلسي عليه ، وأصدح بأعلى صوتي أحبكِ يا أرق ، وأبهى زهرة عبقتْ في أرجاء حياتي حُبَّاً لن يضعف عنفوانه إلى أن يُطوى عمري ، وتَنْفدَ أيامي ، وتَخْمدَ أنفاسي .
وفي التي تليها : إن الأجسامَ تشيخُ وتسقمُ ، والأعمارَ تُطوى وتَنْفدُ ، والأحلامَ تتغيَّرُ ، والأماني تتبدَّلُ ، والمناظرَ الخلابةَ يَقلُّ بهاؤها بتكرار النظر إليها ، أما حبكِ فمتأصلٌ في القلب ، متجذِّرٌ ، لا يَشيخُ ، ولا يَسقمُ ، ولا يَنفدُ ، بل هو فتيٌّ كيوم وُلد ، ومُحياكِ الوضيء الفاتن يزداد جمالاً وبهاءً مع كل نظرة .
وفي الثالثة : قطفتُ هذه الوردة من بستان الحب وقدمتها إليكِ لأن فيها بعضاً من رقتكِ وشذاكِ يا سيدة الحسن ولكن احذري من أن يؤذيكِ شوكها لأنه لم يُصِبْ إصابةً تامةً من شبَّهكِ بها فأنتِ أرقُّ منها ، وأنعمُ ، وأعذبُ ريَّا ، والوردُ يذبلُ مع الأيام أما أنتِ فلا يزيدكِ كَرُّ الأيام إلا بهاء.
وممهورة بالأسفل بحرفي a-r وتاريخ 1809 م .
أعاد القصاصات الثلاث مع البقية إلى الدرج ووضع كفيه على خديه وبدأ التفكير وقد أرجعه ذلك التاريخ إلى عهد الصبا عندما كان طفلاً يلعب مع أترابه ، سليم الصدر من الأحقاد والأضغان ، لا هم عنده إلا المأكل والمشرب والملبس واللهو والعبث مع لداته ومرتْ بخاطره تلك الصبية القاطنة في القصر الأفيح التي سلبتْ لبَّه فشعر بموجةٍ عارمةٍ من الحنين تجتاح قلبه دفعة واحدة فوضع يده عليه لا شعوريَّاً وضغط عليه ثم تساءل ترى ماذا حدث لتلك الصبية الآن ؟ ما حالها مع تقلبات الدنيا ؟ أهي على قيد الحياة أم واراها الثرى ؟ وإن كانتْ حية أسعيدةٌ أم شجيةٌ ؟ أتراها تزوجتْ وأنجبتْ ؟ أهي مثلي في هذه الساعة تحن إلى عهد الصبا المنصرم ؟
ثم نهض واتجه إلى النافذة وفتحها وبدأ التأمل ولكن الذكرى غلبته فعاد إلى شجرة الزان والصبية في القصر الأفيح التي تلعب معه في بعض الأحيان وفي أحيان أخرى تُلوِّحُ له من شرفة القصر وتبتسمُ له ابتسامةً عذبةً تبعثُ في قلبه أُنْساً لا يُفارقه طيلة ذلك اليوم .
يتبع ...



 
 توقيع :


جزيل الشكر ووافر الامتنان لأخي العزيز مصمم الوهج المتفرد أحمد الحلو على التصميم البديع .


رد مع اقتباس