عرض مشاركة واحدة
قديم 11-22-2017   #4
بنت النيل


الصورة الرمزية مي محمد
مي محمد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 528
 تاريخ التسجيل :  Mar 2012
 أخر زيارة : 08-25-2020 (10:59 PM)
 المشاركات : 36,790 [ + ]
 التقييم :  228073882
 الدولهـ
Egypt
 الجنس ~
Female
لوني المفضل : Crimson
شكراً: 201
تم شكره 562 مرة في 461 مشاركة
افتراضي تاريخ بني اسرائيل في القران



[frame="10 10"]



اللقاء الثاني والرجفة ونتق الجبل:
وبناءً على ما كان منهم, اختار موسى (70) رجلا من أفضلهم, للاعتذار عما فعله السفهاء من قومه {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف:155] فشهدوا الوحي بمعية موسى عليه السلام دون سماعه, وشعروا بوجود خالقهم وعظمة قدرته بأن زلزل الأرض من تحت أرجلهم. أخذ الميثاق, وإلزام النقباء الاثنيّ عشر بالسهر على تطبيقه, والحكم بما جاء فيه: وهناك عُرض عليهم الميثاق ليلتزموا به ويلزموا أتباعهم على القيام به, ويتحملوا مسؤولية نقضه فتردّدوا وأبَوْا, فرفع سبحانه فوقهم الجبل وأجبرهم على أخذه بالقوة, ولو أصرّوا على الرفض لأطبقه عليهم فقبلوه على مضض, وكان الله أعلم بما يعتمل في صدورهم ولكنه غفور رحيم, حيث قال فيهم: {وَإِذْ أَخَذْنَا ميثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:93]. فاختير من السبعين رجلا (12) نقيبا, بعدد الأسباط (أي قبائل بني إسرائيل) وهم الذين تُسميهم التوراة بالقضاة. وهذا نص الميثاق الذي أُلزموا بالعمل على تطبيقه, بالإضافة إلى الوصايا الواردة في سورة الأنعام {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمْ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [المائدة:12]. رفض المن والسلوى وطلب القثائيات, والحكم عليهم بالنزول في موطن زراعتها: كانت مدة المكث بادئ الأمر في الصحراء بسيطة, وذلك لتذمّرهم وعدم صبرهم على طعام واحد, أي المنّ والسلوى, فحكم عليهم سبحانه بإكمال المسير المقدّر مسبقا, بقوله على لسان موسى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَمُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة:61] وحيث أنه قال {مِصْراً} منونةً, ولم يقل {مِصْرَ} بدون تنوين, فهي غير مصر التي خرجوا منها, وإنما جاءت هنا بمعنى (بلداً) نكرة وغير معرّفة, وقوله {فإنّ لكم ما سألتم} تعني أن هذا البلد يتميّز, بأن فيه ما سأله بني إسرائيل من نبيهم من عدس وبصل وغيره, ولو تساءلنا عن موقع هذا البلد, القريب من الأرض المقدسة, الذي يتميز بخصوبة أراضيه ووفرة مياهه من ينابيع وآبار ويصلح لزراعة القثّائيات, بالتأكيد ستكون الإجابة الأرض الواقعة شرق نهر الأردن, وفي السفوح الغربية للجبال المطلة على فلسطين, وبالتحديد قرية مدين التي يعرفها موسى, ويعرف ميّزاتها وخصائصها, والتي كان أهلها قد هلكوا بعذاب يوم الظلّة, قبل أو بعد خروج موسى منها, ليرثها بنوا إسرائيل مع القلة المؤمنة, من قوم شعيب التي نجت من العذاب, والله أعلم. دخول مدين والمُقام فيها: قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:58], وقال في آية أخرى: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمْ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ} [الأعراف:161-162], ولم يكن المقصود بهذه القرية الأرض المقدسة, كونهم دخلوها حربا, بعد موسى عليه السلام بأربعين عاما على الأقل, وهذه القرية سُكنت حقيقة بدخولها بلا قتال بمعية موسى عليه السلام, وقد بدّل الذين ظلموا منهم -أي العُصاة- القول والهيئة عند الدخول, فأرسل عليهم سبحانه رجزا من السماء. وقوله قبل الدخول: {وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ} وقوله لهم في النص الآخر: {فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} يوحي بأنها سكنى مؤقتة, ولم يكن لديهم علم بأنه سيكون هناك ما بعدها, وهو الاستعداد والتهيئة لدخول الأرض المقدسة, فأفشلوا أنفسهم في الدخول الأول لتلك القرية, فاستحقوا غضب الله عليهم, وأفشلوا أنفسهم عندما أُمروا بالدخول الثاني بلا حرب, فأفشلهم الله وأذهب ريحهم. وقد قيلت هذه العبارة لآدم عليه السلام وزوجه {وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة:35] قبل دخوله الجنة ولم يكن لديهما علم بأن الإقامة فيها مؤقتة, وأن هناك ما بعدها, وسيحاطون به علما عند وقوعه, وفي موعده المقدر المضمر في علم الله, ولكن بعد فوات الأوان. وإن لم تكن مدين هي القرية التي دخلها بنوا إسرائيل وأقاموا فيها, فهي قرية تقع في نفس المنطقة, والله أعلم. الخسف بقارون, ورحلة موسى والفتى, وذبح البقرة: أقام بنو إسرائيل في مدين بمعية موسى -على ما يبدو- سنين عديدة, واطمأنوا بها وإليها وطاب لهم المقام فيها, حيث الزراعة وتربية المواشي والتجارة, ومن الأحداث التي نعتقد أنها وقعت فيها قصة البقرة {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67], وقصة سفر موسى حيث مجمع البحرين, للالتقاء بالعالم, {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقبًا} [الكهف:60] وقصة قارون المعروفة {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَليْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76]. الأمر بدخول الأرض المقدّسة وتحريمها عليهم وتيههم شرقي النهر: وبعد مدة من مكثهم في مدين, أمرهم موسى بدخول الأرض المقدسة (فلسطين), ولم تكن هناك حاجة للقتال آنذاك فرفضوا وعصوا لقلة إيمانهم, وأخلدوا إلى الأرض وتذرّعوا بحجج واهية ليبرّروا اتكاليتهم وعجزهم, فدعا موسى ربه ليحكم بينه وبينهم, فاستجاب له ربه {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:26] فكان تحريم الدخول لمدة أربعين سنة ومن ثم التيه في الأرض. والتيه لغة الحيرة والضلال, ورجل تائه وتيّاه إذا كان جسورا يركب رأسه في الأمور, وفي الحديث: إنك امرؤ تائه, أي متكبر أو ضال متحيّر. والمراد من ذلك أنهم تُركوا على رؤوسهم, وحُرموا من قيادة الأنبياء, بأن الله تخلى عنهم وحرمهم من رعايته لهم, ورفع عنهم الوحي وتركهم بلا هداية, بعد موت موسى عليه السلام, على مدى 40 سنة, ولم يُقصد بالتيه الضياع والتشرّد المكاني في صحراء سيناء كما كنا نعتقد سابقا. والصحيح أنهم حافظوا على تواجدهم, كأمة مكونة من 12 جماعة شرقي نهر الأردن, وأُوكلت قيادة كل جماعة إلى أحد النقباء الاثني عشر, كل حسب السبط الذي ينتمي إليه بعد انقطاع قيادة الوحي, وهذا مما ينفي نبوة فتى موسى المسمى بيوشع بن نون. وهنا تتضح الحكمة من جراء إلقاء مسؤولية حفظ الميثاق وإقامته, على النقباء الاثني عشر بعد وفاة موسى وانقطاع الوحي والعناية الإلهية. وهذا ما حاول مؤلّفو التوراة إخفاءه بتبديل مواضع الكلم, فجعلوا المن والسلوى تتنزّل عليهم لمدة أربعين سنة في الصحراء, وهي عدد سنين التحريم والتيه التي كانوا يأكلون فيها البصل والعدس. ويدّعي كتبة التوراة أن بني إسرائيل, أثناء قدومهم إلى الأرض المقدسة بمعية موسى عليه السلام, قد قاتلوا أقواما كثيرة شرق نهر الأردن وانتصروا عليها, ويدّعون أيضا أنهم هاجموا الكنعانيين بعد موسى, وهدموا أسوار مدينة أريحا بمعية يوشع بن نون, وأنهم أقاموا زمن القضاة غرب النهر. وهذا كله محض افتراء وتلفيق, فكيف يقاتل من طلب منه مجرد الدخول ولم يدخل, ولفظ الدخول في القرآن يوحي بانتفاء القتال, ونص الحوار الذي دار بين موسى وقومه لدخولها تجده كاملا في الآيات 20-27 من سورة المائدة. زمن الإخبار بنص نبوءة الإفساد والعلو في الأرض: وبعد مدة يسيره من الزمن من ذلك الحكم, كشف موسى عليه السلام النقاب عن النبوءة موضوع هذا الكتاب, وأخبر عنها قبل أن ينتقل إلى جوار ربه. وتركهم في غيهم وطغيانهم يعمهون, كما حكم عليهم ربهم, وأُوكل الأمر من بعده إلى النقباء الاثني عشر أصحاب الميثاق, ليحفظوا التوراة وليحكموا بين الناس بما جاء فيها, ومن ذلك اليوم انتقلت مسؤولية حفظ التوراة والشريعة إلى أناس عاديين, فبدأ ظهور الأحبار, قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة:44]. طلب المُلك لدخول الأرض المقدّسة بعد نهاية سنوات التيه: قال تعالى: {إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:246] وبعد انقضاء سنون التيه الأربعون, التي عاشوا خلالها شرقي نهر الأردن, بُعث فيهم نبيا, يدّعون في التوراة أن اسمه (صمويل), وربما لتعرضهم لضيق العيش والاضطهاد والغزو, من قبل الممالك المجاورة شرقي النهر, طلبوا من هذا النبي أن يسأل الله ليبعث لهم ملكا, قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى, إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:246] بغية دخول الأرض المقدسة التي كتب الله لهم, فبُعث لهم طالوت ملكا وأنزل الله لهم التابوت تحمله الملائكة آية لملكه, كونهم لا يؤمنون إلا بما هو محسوس, فأعدّهم ونظّم صفوفهم واجتاز بهم نهر الأردن على ألّا يشربوا منه فشربوا منه إلا قليلا, وكانت المواجهة مع الكنعانيين -على الأرجح في سهول أريحا- {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ} وقتل داود -الذي كان من جنود طالوت- جالوت قائد الكنعانيين فدخلوا القدس, ومن ثم انتقل المُلك لداود عليه السلام بغض النظر عن الكيفية {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة:251] ونص هذه الأحداث كاملا تجده في الآيات 246 - 251 من سورة البقرة, وكانت هذه أول معركة يقاتل فيها بنو إسرائيل, وكان جيشهم يتألف من القلة المؤمنة, التي لم تكن قد شربت من النهر (نهر الأردن), وكان هذا هو الدخول الأول لبني إسرائيل إلى الأرض المقدسة. داود عليه السلام يؤسس أول دولة لليهود في القدس: قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَينَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الجاثية:16] هذه الآية تشير إلى أن هناك خمسة أمور اجتمعت لبني إسرائيل, وهي الكتاب أي الشريعة التي تركها لهم موسى عليه السلام, والحكم أي الملك, والنبوة أي الوحي, والسعة في الرزق, والتفضيل باختيارهم لحمل الرسالة السماوية في ذلك الزمان, وقد اجتمعت هذه الأمور الخمسة في زمن مملكتهم الأولى في الأرض المقدسة, حيث كان داود عليه السلام أول ملوكها. ملك داود عليه السلام: معظم الآيات التي أخبرت عن داود وملكه, كانت تركّز على شخص داود, حيث اتّصف عليه السلام بالورع والتقوى وكثرة العبادة, والعلم والقوة مع شيء من اللين في المعاملة, وتوحي بأن شغله الشاغل, كان توطيد أركان دولته الحديثة {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص:20] وإعداد ما استطاع من قوة للدفاع عن دولته الصغيرة, التي كانت محصورة في بيت المقدس وما حولها, من هجمات الأقوام المجاورة لها من الكنعانيين, ولم يكن يسعى لتوسيع رقعة الدولة, كون الأمة الإسرائيلية آنذاك كانت قليلة -وهي لم تكثر إلا في العصر الحديث, وبالتحديد بعد الحرب العالمية الثانية, حيث رُفع عنهم القتل- ولم تكن تستدعي امتلاك مساحة كبيرة من أرض فلسطين. صفة الجبن الملازمة لليهود ومعالجتها بابتكار داود للدروع الحربية: قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء:80], والضمير (كم) في كلمتي {لكم} و {بأسكم} يعود على المخاطبين بالقرآن, وهذا خبر يفيد أن داود عليه السلام, هو أول من ابتكر الدروع الحربية الحديدية, وأول من استعملها هم بنوإسرائيل, وهذا يكشف طبيعة الجبن فيهم, والحرص على الحياة والخوف من الموت وكرههم للقتال {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} [البقرة:96] وصناعة داود لها يدل على معرفته بطبيعتهم تلك, فقد قالوا لموسى من قبل: {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24], فالجبن والتواكل على الغير طبيعة متأصّلة في نفوسهم, وانظر إلى قولهم {وربك} وليس {وربنا}, فهو رب موسى وليس بربهم فما كانوا مؤمنين, لذلك قال فيهم موسى عليه السلام : {فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:25], وكان أغلبهم فاسقين وعصاة ومعتدين, حتى في زمن طالوت وداود وسليمان وعلى مر العصور, حيث قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة:78] فكما تأذّى موسى عليه السلام {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5] تأذّى منهم داود عليه السلام وهو أول ملوكهم, وتأذّى منهم عيسى عليه السلام وهو آخر أنبيائهم, ومن وقع بينهما من الأنبياء, ولم يكن شُرب أغلبهم من النهر, عند عبورهم مع طالوت إلى فلسطين عطشا, وإنما ليستثنيهم طالوت من الخروج في الجيش للقتال, وما زالوا يفتعلون الحجج للتهرب من القتال حتى في دولتهم الحالية, فهم يدفعون بأبنائهم إلى المدارس الدينية لتجنيبهم الخدمة العسكرية, فابتكر عليه السلام الدروع الحديدية ليلبسوها في حروبهم مع الشعوب المجاورة, التي على ما يبدو كانت تغزوهم باستمرار, لعلها تدخل شيئا من الاطمئنان إلى تلك القلوب الوجلة, وتدفعهم إلى الذود عن حمى مملكتهم. ولو نظرت إلى واقعهم المعاصر, لوجدتهم يلبسون الدروع الواقية من الرصاص حتى في مواجهة الحجارة, وتجدهم يتحصّنون وراء السيارات المصفحة, أو يقاتلون من وراء جدر من الإسمنت المسلح, وهذا ما يفضحهم به القرآن في مواضع كثيرة {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [الحشر:14]. سليمان عليه السلام يوطّد أركان الدولة: نظام الحكم ملكي وراثي: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ} [ص:30], {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل:16], نتبين من الآيتين السابقتين, أن نظام الحكم في مملكة بني إسرائيل الأولى كان ملكيا وراثيا في نسل داود عليه السلام. وفي سنين حكم سليمان عليه السلام, سعى إلى توسيع رقعة مملكته نسبيا, لتغطي مساحة أكبر من مدينة القدس, لتشمل ما حولها من المدن والقرى, من النهر شرقا إلى البحر غربا, ولكنها على كل الأحوال لم تشمل فلسطين كاملة, فأهل فلسطين الأصليين لم يخرجوا منها ولم يّبادوا, ولكنهم تقهقروا إلى ما بعد حدود مملكة سليمان, حيث كانت الممالك في تلك العصور, تقتصر على مدينة -بحجم قرية في العصر الحالي- وما حولها من سهول ومراعي, ولا أظنهم استكانوا وسلمّوا لبني إسرائيل بالأمر الواقع, وإنما كان هناك حروب ومناوشات, والله أعلم. حقيقة ملك سليمان: أما قول سليمان عليه السلام: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص:35] فكان ملكا شخصيا خاصا به, ولم يكن لبني إسرائيل فيه ناقة ولا بعير, ولم يقصد به امتلاك مساحات شاسعة من الأراضي, ومظاهر ملكه اقتصرت على ما وهبه سبحانه إياه, من الممتلكات والقوة والحكم, والتي تميّز بها عن كافة ملوك الأرض ممن أتوا بعده, ومنها؛ جريان الريح بأمره, وحكمه للجنّ, واستعمالهم في البناء والغوص والقتال والصناعة, والقدرة على إذابة النحاس وتشكيله, وكثرة جنوده من الجن والإنس والطير, وكان عليه السلام قويا ورعا تقيا عالما حكيما, وفيه شيء من الشِدّة, وكان بنوا إسرائيل يرهبونه ويخافونه, ولذلك نال قسطا كبيرا من اتهاماتهم المشينة, بعكس أبيه داود الذي كان لينا معهم, فقال فيهم سبحانه: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ …} [البقرة:102], وعلى ما يبدو أن الشياطين بعد وفاته عليه السلام, ادّعت أن سليمان لم يسلطّ عليهم, وإنما كان تابعا لهم يعبدهم ويستعين بهم لقضاء مصالحه. فأشركوا بالله وعبدوا الشياطين وأباحوا السحر والشعوذة, {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام:100]. أكثر ما حيّرني في أمر ملك سليمان هو الغاية من تسخير الريح, فالروايات في كتب التفسير غير منطقية, حيث تقول أنها كانت تحمل سليمان وملأه وجنوده, على بساط خشبي عظيم, وتنقلهم من بلد إلى آخر للقتال والترفيه وغيره, ولم يرد في تواريخ الأمم التي عاصرت ملك سليمان, أنهم شاهدوا يوما بساطا خشبيا طائرا, وسورة النمل تؤكد أن سليمان وجنوده, كانوا يسيرون على الأقدام أثناء تنقلهم. وبعد طول تفكير وتمعنّ وتدبّر في الآيات, التي تتحدث عن الريح وعن ملكه عليه السلام, تبين لي أنه كان يركب البحر, منطلقا من الأرض المقدسة, فتجري الريح بمركبه إلى حيث أراد برفق ولين في الذهاب, لتسهل عليه عملية البحث والتقصي, بدلالة قوله تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} [ص:36-37], وبعد انتهاء المهمة, يستعجل العودة إلى وطنه, فيأمر الريح لتجري بقوة وسرعة إلى الأرض المباركة, بدلالة قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا * وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} [الأنبياء:82], وأما الغاية من القيام بالرحلات البحرية, فهي السياحة واستخراج كنوز البحر وجلبها لمملكته, ويؤيد ما ذهبت إليه ذكر الغوص, الذي كانت تقوم به الشياطين, مباشرة بعد ذكر الريح في الآيات السابقة, والغوص عادة لا يكون إلا في المياه العميقة, وكانت مدة كل رحلة من رحلاته شهرين, شهر في الذهاب وشهر في العودة, بدلالة قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ:12], والله أعلم. سليمان هو أول من بنى المسجد الأقصى: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, لَمَّا بَنَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ, سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خِلَالًا ثَلَاثَةً, سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ فَأُوتِيَهُ, وَسَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَأُوتِيَهُ, وَسَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حِينَ فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ, أَنْ لَا يَأْتِيَهُ أَحَدٌ لَا يَنْهَزُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ فِيهِ, أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» (رواه النسائي وأحمد وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان والحاكم بأسانيدهم, وصححه الألباني).

هذا الحديث يؤكد:
1- أن مملكة داود وسليمان أي مملكة بني إسرائيل الأولى كانت في فلسطين, بدلالة هذا الحديث والآية (81) من سورة الأنبياء المذكورة أعلاه.
2- أن سليمان عليه السلام بنى مدينة بيت المقدس.
3- أن سليمان عليه السلام هو أول من بنى المسجد الأقصى. وأما التسمية بالمسجد فهي التسمية الإسلامية له, وجاءت بعد حادثة الإسراء, وأما في عهد سليمان عليه السلام, فقد جاءت تسميته في القرآن بالصرح, {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ} وأما الترجمة العربية للتوراة فأعطته اسم الهيكل, والمعنى لكلتا التسميتين واحد, وهو البناء الضخم المرتفع. وعلى كل الأحوال فإن المسجد الأقصى القائم حاليا, يجثم في نفس المكان الذي أقيم فيه صرح سليمان, والغريب أن الكثير من أئمة المسلمين وعامتهم ينكرون هذه الحقيقة, ربما لظنهم أن اعترافهم بهذا الأمر, يعطي الصهاينة حقا في هدم المسجد وبناء هيكلهم مكانه, ويُسقط أحقيّة المسلمين فيه ويُضعف موقفهم في الدفاع عنه, حتى وصل الأمر ببعضهم إلى مخالفة النص القرآني, وإنكار حتى تواجدهم في الأرض المقدسة جملة وتفصيلا. قبلة اليهود هي الصخرة المشرّفة: جاء في البداية والنهاية لابن كثير, ما نصّه قال الإمام أحمد: "أن عمر بن الخطاب كان بالجابية فذكر فتح بيت المقدس, قال: قال ابن سلمة فحدثني أبو سنان عن عبيد بن آدم: سمعت عمر يقول لكعب: أين ترى أن أصلي؟ قال: إن أخذت عني صليت خلف الصخرة, وكانت القدس كلها بين يديك, فقال عمر: ضاهيت اليهودية! لا, ولكن أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فتقدم إلى القبلة فصلى ثم جاء فبسط ردائه, وكنس الكناسة في ردائه وكنس الناس". وهذا إسناد جيد, اختاره الحافظ ضياء الدين المقدسي, في كتابه المستخرج. وجاء في تاريخ الطبري في رواية أخرى, أن عمر أجاب كعب بقوله: "فإنا لم نؤمر بالصخرة ولكنّا أُمرنا بالكعبة". ونقول أن مفاد الرواية أن كعب, لما أشار على عمر بالصلاة خلف الصخرة, أراد منه أن يجمع القبلتين في صلاته, فأبى عمر وصلى جاعلا وجه تلقاء الكعبة والصخرة من وراء ظهره. الصلاة في الشريعة الموسوية: لتوضيح الأمر نحتاج إلى معرفة طبيعة العبادة في شريعة موسى عليه السلام, فالصلاة لديهم كانت تؤدّى بشكل فردي في البيت أو فيما يُسمّى بالمحراب في المعبد المقدس (أي الهيكل) {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس:87], والمحراب عبارة عن غرفة صغيرة منعزلة, مخصّصة للصلاة والدعاء والذكر, والأغلب أنها كانت تقام مرتفعة عن الأرض, وهي أشبه ما يكون بالعليّة أو السدّة, وقد ارتبط ذكر المحراب في القرآن, بأنبياء بني إسرائيل الأوائل في فلسطين داود وسليمان, {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص:21], وبآخر أنبيائهم زكريا ويحيى {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} [آل عمران:39]. الصرح أو الهيكل, كيفية بناءه وصفته وموقعه: أما الصرح فعلى ما يبدو أنه كان أعجوبة من أعاجيب الزمان, وأن من قام ببنائه وصناعة محتوياته هم الجن والشياطين, وأن مادة البناء كانت من النحاس والزجاج ومواد أخرى ما عدا الحجارة, وأنه اشتمل على المحاريب والتماثيل والأواني النحاسية الصغيرة, والأحواض أو البرك المائية الضخمة المصنوعة من النحاس, والجواهر والكنوز من لؤلؤ ومرجان وغيرها, مما كانت تستخرجه الشياطين من أعماق البحار. قال تعالى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} [ص:35-37] وقال أيضا: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنْ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُور} [سبأ:12-13]. وأستطيع وصف هذا الصرح بأنه بناء ضخم ومرتفع, كانت الصخرة تقع في مركزه, تحيط بها ساحة واسعة, أرضيتها من الزجاج المصقول, يُرى من خلالها ماء يجري أسفل منها, أو ماء راكد في أحواض مائية, وضع فيها ما استجلبه سليمان من المناظر والمشاهد البحرية, مما استخرجته له الشياطين من أعماق البحر, وعلى أطراف تلك الساحة أقيمت المحاريب العديدة للعبادة من كل جانب, والله أعلم. وقد سمعت من زميل لي زار المسجد وتجوّل فيه, أن هناك آبارا وأحواضا مائية, تحت ساحة المسجد الأقصى مباشرة, فإذا كان ذلك صحيحا, ومع علمنا بأن المسجد الأقصى بُني في نفس موقع المسجد السابق, وأن الصخرة هي القبلة الفعلية لليهود, فهذا الأمر يُؤكد أن الصرح الذي كان قد بُني في عهد سليمان عليه السلام, هو المسجد الذي دخله أولئك المبعوثين أول مرة, وخرّبوه ونهبوا محتوياته ولم يبقوا له أثر يُذكر, وعدم وجود آثار له يُؤكد أن هذا الصرح لم يتم بناءه بالطرق المألوفة, سواء بهندسة البناء أو بالمواد المستخدمة, فبُناته هم الجن والشياطين, وبالتأكيد فإن طريقتهم في البناء تختلف عن طريقة البشر, وطبيعة المواد المستخدمة تختلف عما يستخدمه البشر, وربما يكون هذا الصرح الخرافي هو ما دفع نبوخذ نصر صاحب حدائق بابل المعلّقة, للإغارة على بني إسرائيل في المرة الأولى لنهب محتوياته. حكمة سليمان عليه السلام وخرافات ألف ليلة وليلة: الروايات الموجودة في كتب التفسير, عن قصة سليمان وحبه لملكة سبأ ورغبته في الزواج منها, وإدخالها إلى الصرح لرؤية ساقيها, فيما إذا كان عليهما شعر أو أن قدميها كحوافر الحمار, لأن أبوها أو أمها من الجن … إلى آخره. مما ليس له أصل حتى في التوراة, جردّت سليمان عليه السلام من حكمته في الدعوة إلى الله, وجعلت منه رجلا مزواجا شهوانيا كما أراد له أعداء الله وأعداء أنبياؤه أن يكون. حكمة الهدهد: ولكي نفهم ما جرى من حوار وأحداث بين سليمان وملكة سبأ, دعنا نتمعن قليلا في قول الهدهد: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} [النمل:24] يقول الهدهد أنه وجدها هي وقومها, يعبدون الشمس من دون الله, ويعلّل ذلك بقوله أن الشيطان زيّن لهم أعمالهم, بمعنى أن الشيطان فتنهم وأوهمهم, وزيّن لهم الباطل على أنه الحق, وعمّى سمعهم وأبصارهم, فعطّل عقولهم عن تمييز الحقيقة من الوهم, فحرمهم القدرة على الحكم على معتقداهم, أهي خطا أم صواب, فعبدوا الشمس على أنها ربهم, وبذلك صدّهم عن السبيل, أي منعهم من الوصول إلى الحقيقة, وهي أن الله هو ربهم, فما دامت أبصارهم قد عميت, ويعتقدون بصوابية عبادة الشمس, فمن أين لهم الهداية وهم على حالهم تلك؟ والرسالة التي وجّهها الهدهد لسليمان من خلال هذا القول, هي أنهم بحاجة لمن يهديهم, ويُزيل الغشاوة عن أبصارهم. فتكفّل سليمان عليه السلام بهدايتهم, وبإزالة هذه الغشاوة, لعلهم يُبصرون ومن ثم يهتدون, بما أوتي من علم وحكمة, بعد أن شرَّحَ الهدهد حالتهم المرضية وشخَّصَها وأعطى سليمان مفاتيح الحل, والآن دعنا نتعلم منه عليه السلام, هذا الدرس العملي في الدعوة إلى الله. الدعوة إلى الله: كان أول خطاب وجهه سليمان لملكة سبأ وقومها, هو قوله: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:31] خطابا حازما واثقا قويا ومزلزلا, وكانت هذه هي الضربة الأولى, في جدار معتقداتهم الوثنية المتأصلة في نفوسهم, فقد كانت هي وقومها يعبدون الشمس, ولم يكن لديهم علم بوجود إله آخر أولى بالعبادة من غيره, ولكن هل أطاعت؟ بالطبع لا, فتغيير معتقدات البشر عملية صعبة جدا, وتحتاج إلى علم وحكمة وصبر -وانظر في سيرة نبي الهدى عليه الصلاة والسلام مع كفار قريش لتحويلهم من عبادة إلى الأصنام إلى عبادة الله- ولكن هل تأثرت بذلك العرض القوي؟ بالطبع نعم, فردت بالهدية -وكان بإمكانها عدم الرد- وذلك لتتأكد من جديّة سليمان عليه السلام, ولتَعرِف مع من تتعامل فهي ذكية وحكيمة أيضا وتعي موقعها وعظم المسؤولية الملقاة على عاتقها, بعكس ملأها ذوي القوة والبأس الشديد, ودلالة ذلك قولها: {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:34-35] فأعاد الهدية ووجه لها تهديدا صارما وحازما وأخيرا, {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل:37] فاستوعبت الرسالة وهي أن ما لدى سليمان خير مما لديها, وأن هذا التهديد لا يصدر إلا عمّن يعلم حجم قوتها ولديه من القوة أضعاف ما تملك وأن ما يريده لأجلها شيئا آخر. الإتيان بالعرش وتنكيره: لذلك حملت قومها وأتته على جناح السرعة, وفي طريقها إليه كان عليه السلام يُعدّ لها الضربة الثانية, فطلب عرشها وأمر بتنكيره, وعلّة ذلك كانت {نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنْ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ} [النمل:41] لاختبار مدى استعدادها للهداية للدين الجديد, وليس المقصود هو اهتدائها إلى العرش. كان همّه عليه السلام هدايتها وقومها, وليس الزواج منها كما صوّرته بعض الروايات في كتب التفسير, وكان جلب العرش بحدّ ذاته, كفيلا بتحطيم ذلك الجدار الذي تمترست خلفه, وقد تحطّم بداخلها فعلا عندما رأته وعرفته, لكنها أضمرت ذلك وتمالكت نفسها, ولما سُئلت عنه لم تُثبِت ولم تَنفِ, وكان بمقدورها أن تعترف بأنّه عرشها, وأن تُسلم على الفور ولكنها أجّلت ذلك. والسبب هو ذلك الجدار نفسه {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ}, أي الغشاوة التي أعمت بصرها وبصيرتها, وخوفها من قومها أيضا, فقالت: {كَأَنَّهُ هُوَ} وحتى لو أُجريَ على متاعك الكثير من التعديلات, فستبقى فيه أشياء كثيرة تدلك عليه, فكانت إجابتها حكيمة وغاية في التعقل, فلم تثبت وتسلم أسلحتها الواهية من الوهلة الأولى, محافظة منها على كبريائها كملكة, ولم تنف لأنها تعلم وقومها ويعلم سليمان وقومه علم اليقين أنه هو بعينه, فتدل على كبرياء أجوف وعن بلاهة وغباء, فإجابتها الموسومة بالشكّ كانت هي الأسلم. كانت تعلم بحكمتها أن هناك شيئا آخر ينتظرها, سيأتي أوانه بعد حين, فكشفت بهذه الإجابة لسليمان عن استعدادها للهداية, فيما لو عرض عليها برهانا دامغا وقاطعا, ولكن ما الذي فعله سليمان حقيقة في هذا الموقف؟ كان إحضار عرشها لإظهار مدى عظم ملكه الموهوب له من قبل ربه, وكان تنكير العرش لإيقاظ حاسة البصر ودقة الملاحظة لديها وتحفيزا لعقلها وقلبها, ولكنها لما اهتدت إلى إنه عرشها أخذتها العزة بالإثم شيئا قليلا فكابرت حتى حين. دخول الصرح: فكانت الضربة الثالثة والأخيرة, أي القاضية التي سوّت ذلك الجدار بالأرض ولم تترك له أثرا {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ} فما الذي كان في الصرح ؟ كانت أرضية الصرح من زجاج مصقول ومن تحت الزجاج ماء, وعندما همت بالدخول شاهدت الماء فرفعت ثوبها خوفا من البلل وهمّت بالمشي فيه {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} فتبسم سليمان وكأنه خاطبها ضاحكا: لقد كنت واهمة فلن يصل الماء إلى ثوبك فأنزليه وتقدمي, فهذا {صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} فأنزلته ودخلت ولما لامست قدميها الزجاج تبين لها بطلان ما اعتقدت. وهنا مربط الفرس فما كان منها إلا أن خجلت, من وهمها وانعدام بصيرتها, وذهاب عقلها وحكمتها وضلالها في تلك اللحظة, إذ لم تستطع تمييز الزجاج من الماء, فاستوعبت على الفور مضمون الرسالة التي وجهها لها سليمان. العبرة: فقد يظنّ الإنسان بجهله أنه على حقّ, بينما يكون في الحقيقة على باطل, وهذا هو حالها وقومها بعبادة الشمس من دون الله, وأنه دعاها إلى الحق عن علم, فتمسّكت بالباطل عن جهل, فتبينت بالتجربة والبرهان بطلان معتقدها, وأن الحقّ مع سليمان, فاستجابت على الفور لدعوة سليمان الأولى, قائلة: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} باتباع الباطل عن غير علم {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:44] فما كان من قومها إلا أن تبعوها, وعادت إلى مملكتها لهداية قومها, وأُرجّح أن سليمان لم يتزوجها, والله أعلم, ودانت بعد ذلك مملكتها لسليمان دينيا لا عسكريا, وبقيت العلاقات والمصالح التجارية وغيرها قائمة بين الدولتين, مرورا بجزيرة العرب لفترة طويلة, حسبما تثبته سورة سبأ (15 – 20), حتى كفر قوم سبأ بأنعم الله إلا قليل منهم, ومع تقادم الزمن انقطعت تلك العلاقة. بنو إسرائيل في عصر سليمان: أما بني إسرائيل في عصر سليمان, فلم يختلفوا كثيرا عما كانوا عليه في عصر موسى وداود, حيث كانوا على الدوام فاسدين كأفراد إلا من رحم الله, وما اختلف عليهم في عصر سليمان, أن سليمان ساسهم بالقوة والسلطان, وكان يأخذهم إلى القتال وهم بطبيعتهم له كارهون, قال تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل:17], وحشر أي جُمع, ويوزعون أي يساقون بانضباط ولا يتقدم آخرهم على أولهم. هل تحقّق العلو الأول لبني إسرائيل في فلسطين؟ وأما سبق دخولهم للأرض المقدسة, فقد قال فيه سبحانه على لسان موسى عليه السلام: {يَقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:21] أي كُتب لبني إسرائيل دخولها, وقال سبحانه: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف:137] أي ملكوها وسكنوها, وذلك بعد انقضاء سنوات التحريم والتيه الأربعين. والأرض المبارك فيها هي فلسطين, ومشارقها ومغاربها أي كلها من النهر إلى البحر, وهذه هي حدود الأرض المقدّسة والمباركة وحدود مملكة اليهود القديمة, لنخلص إلى أن الأرض المقدّسة والمباركة هي فلسطين فقط وليس بلاد الشام عامة, إذ أن موسى عليه السلام كان يتواجد وقومه شرقي نهر الأردن, ولو كان شرق النهر أرضا مقدّسة لما قال ادخلوا الأرض المقدسة وهو بداخلها أصلا, وشرق النهر لم يورّث لبني إسرائيل وإنما أقاموا فيه فترة الغضب الإلهي عليهم ومن ثم تركوها وارتحلوا إلى فلسطين. وصلنا إلى مرحلة تحقق العلو, بوحي من الله وقيادة أنبياؤه وملوكه, وكان هذا هو العلو الأول لبني إسرائيل, وأما الإفساد فلم يكن قد وقع منهم لاقتران الملك بالنبوة, وما كان للأنبياء عليهم السلام أن يفسدوا في الأرض, ونجد أن النبي التالي لسليمان في الذكر, من أنبياء بني إسرائيل في القرآن هو زكريا ومن بعده يحيى, وكان آخرهم عيسى عليهم السلام جميعا. وقد بعث الأنبياء الثلاثة بالتتابع وعاصر بعضهم بعضا, وكان ذلك بعد فترة طويلة من وفاة سليمان, وبعد عيسى لم يُبعث فيهم أنبياء, ويقدّر المؤرخون بأن المدة ما بين سليمان وعيسى بأكثر من 900 سنة. وما كان بعث عيسى عليه السلام بالإنجيل, إلا لتجديد الشريعة التي جاء بها موسى, بعد أن أضاع بنو إسرائيل التوراة واختلفوا في أمرها, قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الزخرف:63]. ويُثبت التاريخ أن بعث عيسى عليه السلام, كان في زمن الحكم الروماني للمنطقة, مما يعني أن هذا العلو الذي تحصّل عليه بنو إسرائيل قد زال واندثر, مما يترتب عليه أن الإفساد قد وقع, وأن البعث قد تحقق في الفترة الممتدة ما بين سليمان وعيسى عليهما السلام, في زمن أقرب إلى حكم سليمان منه إلى بعث عيسى.

المملكة اليهودية بعد سليمان: وليس من المعقول أن نجزم بأن مملكة سليمان انهارت بموته, وبما أن نظام الحكم كان ملكيا وراثيا كما أقرّه القرآن, فلا بد أن يكون الملك قد انتقل إلى أحد أبناء سليمان الذين لم يكونوا أنبياء في واقع الحال, فالنبوة آنذاك خرجت من الملك وأصبحت في عامة الشعب, وهنا تحرّر العصاة والمعتدين من اليهود, من عبدة المال والسلطة تجارا ومرابين من حكم وملك الأنبياء, حيث كان الوحي يقف سدّا منيعا أمام طموحاتهم وأحلامهم, في نهب ثروات البلاد والعباد, فهم أبناء الذين قال فيهم تبارك وتعالى: {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَلَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79]. وعلى مر السنين تغيّرت الأحوال وتغلغل المرابين والتجار في أوساط الحكم وتبادلوا المصالح والمنافع, وأصبحوا من علية القوم ليفرضوا على الملوك ما شاءوا من سياسات تخدم مصالحهم. ولو راجعت التوراة المؤرخ الوحيد لتلك الفترة, لوجدت أن عدد الملوك الذين تعاقبوا على الحكم, على مدى 300 سنة تقريبا, هو 22 ملكا, وهو عدد كبير نسبيا, بمعدل 14 سنة حكم لكل ملك, وذلك لكثرة الاغتيالات التي كان يدبّرها ويوقعها فيهم علية القوم, ومن والاهم من الكهنة والأحبار, فيمن صلح أو فسد من هؤلاء الملوك. والملاحظ أيضا أن معظم ملوكهم كانوا صغارا في السن, وربما كان ذلك هو الغاية من قتل آبائهم, فوجود ملك صغير السن يسهل عليهم السيطرة على شؤون الحكم ليكونوا هم خبرائه ومستشاريه, وهذه هي سياستهم في العصر الحالي في شتى بقاع الأرض. وعلى الجانب الآخر كان هناك الأنبياء الذين لم ينقطع بعثهم في بني إسرائيل, ليعيدوا أولئك العصاة عن غيّهم وبغيهم بدعوتهم إلى العودة إلى شرع الله, وتذكيرهم وتحذيرهم بما قضاه الله عليهم إن أفسدوا في الأرض. تخبرنا كثير من الآيات القرآنية عن إفساد بني إسرائيل, حيث الشرك بالله, وتكذيب فريق من الأنبياء وقتل فريق آخر, وقتل أولياء الله من الناس, وسفك دماء بني قومهم وإخراجهم من ديارهم, وتحريف الكهنة والأحبار لكتاب الله ليوافق أهواء علية القوم, والاعتداء على حدود الله وعصيان أوامره, وأكلهم الربا وأموال الناس بالباطل … إلى آخره, ومجمل هذه الآيات تخاطب بني إسرائيل كأمة, فأين ومتى وقع منهم هذا الإفساد الأممي؟! وهل تحقّق الإفساد الأول؟ قال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87] والخطاب هنا موجه لمن يملك سلطة القتل وهم سادة الحكم وعلية القوم, فتارة كانوا يكذّبون الأنبياء وأولياء الله, الذين بُعثوا من قبله سبحانه للإصلاح وتارة يقتلونهم, بدفع من الكهنة والأحبار والتجار لتعارض ذلك مع رغباتهم وأهوائهم {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران:21] فلا أشدّ وأعظم إفسادا في الأرض عند الله, من قتل الناس وسفك دمائهم بغير حق, فما بالك إذا كان القتل في أنبياء الله وأولياءه الصالحين, فهذا قمّة في الإجرام والإسراف والعصيان والتمرد والعدوان, ولا أظنّ أن هناك إفساد في الأرض يُقارن بهذا الإفساد, فلم يسبق لقوم من الأقوام السابقين واللاحقين من غير بني إسرائيل أن قتلوا أنبياءهم, وما إفسادهم الحالي في دولتهم الحالية, إلا صورة طبق الأصل عن الإفساد الأول في دولتهم الأولى, ولو بُعث فيهم أنبياء في هذا العصر لقتلوهم بلا شك, فقد قتلوا رئيس وزرائهم "رابين" بدفع وتحريض من الحاخامات, كونه أظهر شيئا من اللين مع الفلسطينيين لا لأنه مُصلح. قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85] توحي هاتين الآيتين أن سادة الحكم كانوا يستضعفون طائفة من قومهم, ظلما وعلوا بغير وجه حق- وهذا نفس فعل فرعون- فأوقعوا فيهم القتل والنهب والسلب, وأخرجوهم من ديارهم واستولوا عليها, فاضطروا إلى اللجوء إلى أرض أعدائهم, وعلى ما يبدو أنهم كانوا يُجبرون على خوض المعارك, إلى جانب أعداء مملكة بني إسرائيل, وعند وقوع المعركة كان هؤلاء المستضعفين يُحجمون عن قتال بني جلدتهم, ويقومون بتسليم أنفسهم ظنّا منهم بأن أبناء جلدتهم, سيتركونهم ليعودوا إلى أهليهم بعد انتهاء المعركة, فما كان من أولئك الظلمة إلا أن عاملوهم كأسرى العدو فحبسوهم وطالبوا ذويهم بالفدية.



استكمل باقي الموضوع من على هذا الرابط
رابط المادة: http://iswy.co/euo5l



[/frame]

المواضيع المتشابهه:


 
 توقيع :
[img3]http://q87b.info/do.php?img=6324[/img3]


[img3]http://store1.up-00.com/2017-08/150302030675131.png[/img3]

التعديل الأخير تم بواسطة الغريبة ; 11-22-2017 الساعة 11:15 PM

رد مع اقتباس