منتديات وهج الذكرى

منتديات وهج الذكرى (https://www.wahjj.com/vb/index.php)
-   المقال والقصه القصيره بقلم عضو سبق نشرهم (https://www.wahjj.com/vb/forumdisplay.php?f=172)
-   -   الّلقاءُ ! (https://www.wahjj.com/vb/showthread.php?t=48858)

عبد العزيز 08-20-2023 01:32 PM

الّلقاءُ !
 


في أحد الأيام عندما ذهب السَّيِّدُ في نُزْهَةٍ مع عائلته بالقارب أخذت الكتابَ وذهبتْ إلى ضَريْحِ هاردل وقالتْ : ألْقَتْ بي عصا التَّرْحالِ في المدينة التي تَسْتَوْطنها ، فأضلَّتْنا سماءٌ واحدةٌ ، وأقلَّتنا أرضٌ واحدةٌ ، وضَمَّنا بلدٌ واحدٌ ، ولم تَشَأ الأقدارُ أن تَجْمَعَنا إلا بعد مَمَاتكَ ، وكم وددتُ لو كان اللقاءُ سَعيداً ، خَالياً من الشَّجن وذرْفَ الدموع ، تُبَادلني فيه التَّحيَّةَ والعناقَ ، لا لقاء كَهْلَةٍ لرِمَّةٍ باليَةٍ .
انْظرْ إليَّ ، لقد تَغضَّنَ وجهي ، وشابَ رأسي ، واحْدودبَ ظهري ، ولكن قلبي ظل كما عهدته في شبابه قلب الكاعب النابض بالحُبِّ والحنين إلى مرآك ، فوا أسفي ألا أَصلَ إليكَ إلا بعد فوات الأوان !وبعد مُواراتكَ الثَّرى !
لقد كتبْتُكَ بقلبي روايةً لا تَزول ، ونظَمْتُكَ قصيدةً لا تمَّحي ، ورسمتكَ لوحةً بديعةً لا نَظيرَ لها ، ووسَمْتكَ حُبَّاً لا تَطاله الأيامُ ، ولا تَنال منه ، وبعَثْتُكَ كلَّ يومٍ وليلةٍ أمنيةً إلى السماء .
لا تَعْلمُ كم اختلستُ النَّظرَ إليكَ وأنتَ مع سيرفال ، وكم راقبْتُكَ وأنتَ جالسٌ تحتَ الشجرة مع سيدرا تَتَحدَّثان وتُقَهْقهان ، ولا تَعْلمُ كم وددتُ لو أني رَسَمْتُكَ في ذلك العَهْدِ لأنْظُرَ إلى صُورتكَ كلَّما أرَّقني الحنينُ وأناجيها وأبثها ألمي وشجني ، ولا تَعْلمُ كم وددتُ لو أنَّكَ أخذتَ بيدي وجُلْنا حول الرَّابية ، وعَدَونا بجانب الجَدْول ، وتناولنا غداءنا تحت الشَّجرة ، واحتسينا الشاي عند السَّاقية ولكنها الأقدار .
ثم أسْبَلَتْ ناظريها ثم قالتْ: كم وددتُ لو عاد شبابي ! لأكْتُبَ فيكَ روايةً تَصلُ شُهْرَتها عنان السَّماء ، وتَسيرُ بذكرها الرُّكبان ، ولكن لي في قصَّتكَ التي أوْدَعْتها الكتاب الذي معي بعض السَّلوى ، وأنَّى لي أن أكْتُبَ في هذا العمر الذي أصبحتُ فيه على مشارف القبر ، فقد رَقَّ جِلْدِي ، وَوَهَنَ عَظْمي ، وَوَهَى جَلَدِي .
انْظُرْ إلى الطُّيورِ الشَّادية ، والجَدَاول الجارية ، والأشْجَارِ الباسقة ، والأزْهَارِ العابقة ، لكأن شَدْوها زفراتي وأنيني ، وجَرَيَانها دُموعي ، وبُسُوقها طول شجني ، وتَفَتُّحها تَفَتُّح أبواب الأمل التي لا تَلْبَثُ أن تُؤْصَد .¬
ثم صَمَتَتْ وأطالت الصَّمْتَ ثم قالتْ : اعذرني سأقولها فهي كالطَّودِ الأشَمِّ الذي يَكادُ يُخْمدُ أنفاسي .
ثم صمَتَتْ واسْتَجْمعتْ قواها لتقول الكلمة التي طالما أرادتْ قولها : حبيبي هاردل ، حبيبي هاردل ، حبيبي هاردل .
ثم جَثَتْ على ركبتيها وانْخَرَطتْ في البُكاءِ من جديدٍ ، ثم أخرجتْ صندوق الجواهر ومدَّته أمام الضَّريح وقالتْ : ها أنذا أُقَدِّمُ إليكَ أمانتكَ التي أعطيتني إياها في جزيرة النرمليلا التي قَذَفتْكَ الأمواجُ إليها مع قلبي الذي لم يَمْلكْهُ سواكَ ، وأَعدُكَ عند عودتي إلى المدينة أن أنْشُرَ كتابكَ الذي كتَبْتَه ، وأحْتَفظَ به تذكاراً إلى أن يُواريني ضريحي .
ثم وضعتْ صندوقَ الجواهر الذي أعطاها إياه هاردل في جزيرة النرمليلا ونَحَتَتْ على نَصْبِ قَبْرهِ هذه الكلمات : سَأُديرُ ظهري لكلِّ شيءٍ ، وأمحو من قلبي كلَّ ذكرى إلا ذكراكَ كما أدرتَ ظهركَ للدُّنيا ونعيمها ، وقضيتَ نَحْبكَ بهدوء بلا ضَجيجٍ ولا عَجيجٍ في مكانٍ ناءٍ لا أنيسَ لكَ به ولا حبيب ، ولم تُسَاعفْكَ الأقدار فتَقْضي نَحْبَكَ في دياركَ ومرابع طفولتكَ بين أهلكَ وأحبائك .
ثم رفعتْ رأسها وقالتْ : هاجرتَ كهجرة الطُّيور مع فارق أن الطُّيورَ تَعُود أما أنتَ فهاجرتَ بلا إيابٍ ، وتَوَارتْ شَمْسُ عُمركَ خلف وادي الغيابِ السَّحيقِ الذي لا أوبة منه ، وهاهي شمسي تُوشكُ على الأفول ، فقطار العمر يَمْضي في الطريق المرسوم له إلى مَحَطَّةِ النِّهاية بلا إياب .

عبدالحميد19 08-20-2023 02:58 PM

رد: الّلقاءُ !
 
شكرا لك اخي على الطرح المميز والرائع تحياتي لك

وارفة البيان 08-20-2023 09:52 PM

رد: الّلقاءُ !
 
حسبها ان هنالك الملتقى
وتحشر الروح مع من أحبت
يهرم الجسد وتبقى القلوب كواعب
وفجيعة المفارق مهولة كلما زاد وقت العشرة واستطالت صفحة الذكريات
كأني أقرأ رواية فرنسية بما فيها من ارستقراطية المشاعر كأنها مخمل في معية عروس يتجدد
شهادتي بك دلائلها وبيناتها تلك الروعة المسجاة كجنائن فارهة للنزهة بين السطور

عبد العزيز 08-21-2023 01:43 PM

رد: الّلقاءُ !
 
العزيز عبد الحميد : ممتنٌّ لمروركَ العذب .

عبد العزيز 08-21-2023 01:43 PM

رد: الّلقاءُ !
 
الموقرة وارفة : سبحان الله ! والله ما قرأتُ لكِ ردًّا إلا وأيقنتُ -زيادة على يقيني- أنكِ أبرع من قرأتُ لهم ردودًا ، وأنكِ تنسجين من روائع اللغة شموسًا وأقمارًا يستضاء بها .
أسأل من جلت قدرته ، أن يملأ قلبكِ أنسًا وسرورًا ، ويزيل ما أشجاكِ (كوني بخير) .

عبدالحميد19 08-21-2023 03:07 PM

رد: الّلقاءُ !
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبد العزيز (المشاركة 874394)
العزيز عبد الحميد : ممتنٌّ لمروركَ العذب .

لا شكر على واجب اخي الكريم

عبد العزيز 08-22-2023 07:28 PM

رد: الّلقاءُ !
 
أخي العزيز عبد الحميد : ممتنٌّ لكرمكَ ودماثتكَ .

عبدالحميد19 08-22-2023 09:24 PM

رد: الّلقاءُ !
 
تسلم اخي الكريم ربي يحفظك ويسعدك

وردة الغرام 08-23-2023 06:23 PM

رد: الّلقاءُ !
 
بسم الله ماشاء الله تبارك الرحمن

دائما متميز جداً في إختيار العنوان وانتفاء

الحروف والكلمات والوصف والمعني رائعة بكل المقاييس

اعجبتني كثيرا

تسلم الايادي على الطرح الرائع والمميز والجميل

يعطيك الف عافيه كاتبنا الغالي والمتميز دائما وابدا عبد العزيز

عبد العزيز 08-23-2023 07:05 PM

رد: الّلقاءُ !
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبدالحميد19 (المشاركة 874584)
تسلم اخي الكريم ربي يحفظك ويسعدك

اللهم آمين

جزاك ربي خيرًا ووفقك (ممتنٌّ) .

عبد العزيز 08-23-2023 07:06 PM

رد: الّلقاءُ !
 
أختي الموقرة وردة : تأتي ردودكِ في خضم الشجى بلسمًا شافيًا ، وترياقًا لما ألمَّ ، ونهرًا رقراقًا من السعادة ، فرضي عنكِ ربي ، وأسعدكِ في الدارين وأنالكِ من الخير فوق ما تأملين .

ريماس 08-23-2023 09:28 PM

رد: الّلقاءُ !
 
جميل ورائع ومميز ماقدمته لنا
دام لنا قلمك وعطائك الجميل والرائع والمتميز
دمت بحفظ الله
تقيمي والرفع والختم
و300م و200ت

عاشق القصيد 08-23-2023 10:42 PM

رد: الّلقاءُ !
 
عبدالعزيز
يعطيك العافيه على هذا
الطرح الجميل موضوع
في قمة الروعه
راق لي طرحك
وموضوعك المميز
أنتظر جديدك بكل شوق
تحياتي لك

عبد العزيز 08-24-2023 11:56 AM

رد: الّلقاءُ !
 
ريماس : ممتنٌّ لمروركِ العذب .

عبد العزيز 08-24-2023 11:56 AM

رد: الّلقاءُ !
 
الموقر بويمر : جزيل شكري ووافر امتناني لإطلالتكَ البهية .

همس المطر 08-24-2023 09:24 PM

رد: الّلقاءُ !
 
من أجمل ما قرأت
إسلوبك جميل وكلمات عميقة
ذات معانِ قوية
رائع أنت رائع
وبكل مرة أنا سعيدة بالقراءة لك
أرق تحية

عبد العزيز 08-25-2023 10:21 AM

رد: الّلقاءُ !
 
أختي الموقرة همس المطر : لا تعلمين مدى السرور والأنس الذين يغمران قلبي ويفيضان عندما أقرأ ردودكِ العذبة التي تفعل بالعقل مالا تفعله المدامة (كوني بخير) .

ناطق العبيدي 09-07-2023 10:32 AM

رد: الّلقاءُ !
 
مشكور على المعلومات القيمة التي احتلت المكان
دمت بهذا التميز...
أغلى سلام لشخصكم الكريم

عبد العزيز 09-09-2023 10:41 AM

رد: الّلقاءُ !
 
العزيز ناطق : ممتنٌّ لمرورك العذب .


الساعة الآن 02:02 PM بتوقيت الرياض

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. Designed & TranZ By Almuhajir
new notificatio by 9adq_ala7sas
دعم فني استضافه مواقع سيرفرات استضافة تعاون