كبر الطفل ،وصارت سحنته مثل سحنة الأرض..أصبغت ملامحه الشمس المحرقة صيفا..حيث كان يمشي وسط الحقول ،من شروقها
إلى غروبها وهو يساعد والده..لم تعد الشمس تؤذيه ..فقد ألف حرارتها كما ألف زمهرير الشتاء..وصفعاته التي تجرح
خديه عندما يلفحها الصقيع..كم مرة جرى بقدميه الحافيتين على صفحة الجليد الممتد على طول الساقية التي تروي
الأرض والبهائم والرعاة ،والسقاه من أهله وعشيرته..هو وأطفال في مثل سنه،
وهم ضاحكون فرحين لا يبالون بقساوة البرد ،ولا الثلج ،ولا الجليد!
قريته نائية عن المدينة التي لم يزرها قط..كان يسمع بأن من زار المدينة من أهله أو عشيرته ،تجتمع عليه أهالي القرية..
شيوخها شبابها عند عودته ،يستفسرونه عن مشاهداته في المدينة وكيف أحوال أهلها ،ومعيشتهم وأبنيتهم
السامقة ووسائل تنقلهم الفاخرة وعن أنوارها المتلألئلة كالنجوم ..إلخ...
وكان الزائر ينتفش بينهم كالديك أو الطاووس حين يحكي ، ويتعمد الصمت من حين لأخر كأنه يتذكر ،وفي كلامه
زهو وخيلاء ،كأنه يشعرهم بأنه قد منّ الله عليه وأصبح أرقى منهم ،لأنه زار المدينة قبلهم ورأى مالم يروه
وعلم مالم يعلمون ، وشاهد مالم يشاهدوه وتمتّع بما لم يكن لهم في الحسبان..!
وكانت عيونهم تُحملق في حركات فمه ويده ،وكلهم آذان صاغية ..
كم تمنى في قرارات نفسه أن يكون مثل ذلك الرجل ،ليأتي يوما ويحكي لهم بدوره!
بلغ سن العشرين من عمره، وفقد والديه معا ،وتركوه عرضة للحرمان والضياع وسولت له نفسه
أن يزور المدينة ، ويسترزق الله هناك..ويبحث عن عمل كيفما كان نوعه ..بدل أن يبقى في القرية
عالة على بعض أفراد عائلته ..وتحت وطأة الفقر المذقع!
الغزال الشمالي
تتبع بإذن الله