تتمة الفصل الثاني
وكان لكلماته وميض السحر على القطيع الغاضب الذي استحال للسكينة والوداعة.يا سبحان اللة بكلماته البسيطة تم ترويض
الجمع المتجهم وعادوا الى مقاعدهم بينما بدأت الفتيات بالدخول على استحياء وتردد حيث توجهت الأنظار اليهن وقد ساد الهدوء النوعي
القاعة ،بالطبع لم يدعوهن احد للجلوس لعدم وجود كراسي اضافية من جهة ولإن المجتمعين لا يعرفون الإتيكيت ولا يتصورون مشاركة النساء
لهم من الأساس في اجتماعاتهم ..!!بإرتباك وقد رفضت الفتيات الأخريات توزيع العريضة المطبوعة للمجتمعين خوفا وخجلا وتهيبا
من الموقف ، فقد قامت سارة بثبات وشجاعة بهذا الدور ثم عادت لتشرح بصوت ارادته ان يكون هادئا منطقيا مقنعا ثوابت الخطوة
التي اضطررن الى اتخاذها وذلك للفت الإنتباه اليهن فمستقبلهن على المحك ، وموضوع الوظيفة لا يعني بالنسبة اليهن لقمة
عيش بقدر ما هواثبات وجود وتحقيق اهداف وتوافق مع الذات،لم يفهم الحاضرون المنطق الذي تتكلم به ، ولم تحركهم المبادئ
التنموية المستقبلية التي ترتكز عليه قضية التوظيف والإستعانة بالكوادر المؤهلة النسائية ، ولم يغيظهم ويثير همهمتهم
إلا قولها في النهاية ،لم لا يفكر المسئولون بالمستقبل ..؟؟ ولم يظنونه يوما بعيد الوصول ، ام انهم يفكرون بكرسي السلطة
فقط وما دام لا يضمنونه في العشرين سنة القادمة فإنهم لا يأبهون إلا باليوم فقط ، ويعيشون له ويقتطعون ما يستطيعون
من خيراته غير آبهين بالأجيال القادمة ومستقبل الوطن .. وحده مرة اخرى رأى فيها مالم يراه الآخرون ، فهم سعة افقها
وبعد نظرها ، ولا مس خطابها معتقدات خفية بباطن روحه ورغم انه وصفها بعد ذلك في تعليقاته امام موظفيه ومدراء اداراته
بالطالبة المتمردة على وضعها التي سبقت زمانها إلا إنه احترم مطالبها ووجدها معقولة وتستحق التنفيذ رغم امتعاض
الحاضرين واستياءهم،هكذا انفض اجتماعهن بالمسئولين وخرجن دون أن يحصلن على موافقة او دعم او حتى كلمة تشجيع
ولكنهن بأحسن الأحوال قد احسسن انهن فرغن غضبهن واستيائهن وعبرن عن حقهن بالمشاركة والتفاعل،بعد الذي شاهدته
ولمسته من تعامل الموظفين والمسئولين وجدت بإن العمل مع هذه العقلية المتخلفة كان يمثل ضيقا لها واحباطا ولا يبشر بخير
وقد رأت تفكير الموظفين السطحي ونظرتهم الدونية للمرأة وتخلفهم ولكن الذي يرغمها على الصمود والتمسك بموقفها هو طموحها
وعدم استيعابها للعيش بصورة أخرى غير كونها مهندسة في هذه المؤسسة ..!! إنه كيانها وحياتها وقدرها ولا تستطيع
تغييره ، أما التقاليد والعادات فنحن نصنعها ولا يمكن ان نسمح لها بإعادة تكويننا وتشويه مبادئنا وقناعاتنا.لقد تعلمت ودرست وتملك
من المؤهلات التي يملكها الموظف الرجل بل إن بإستطاعتها القول بثقة بعد أن رأت تفكير وتصرف البعض منهم الغوغائي المفتقد
للذوق والتهذيب إن مستقبل المؤسسة بخطر إذا كان مصيرها بيد هؤلاء المسئولين ..!!
إنها لم تربى على إنها قاصر ومحدودة التفكير ..بل درست نفس المناهج التي يدرسها الفتى وزادت عليها بثقافة عامة وروح
منطلقة مفعمة بالثقة بالنفس والمبادئ والقيم فلا تستطيع هذه الكومة من الثياب البيضاء المتصلبة التفكير اثناءها عن تصميمها
لمجرد إنها امرأة ..!! نعم إنها امرأة وتفتخر بكونها كذلك ولا يعيرها ويقلل من شأنها ذلك لأنها تنظر الى حجم تفكيرها ورجاحة
عقلها وقوة ايمانها ومدى رغبتها بتغيير الأشياء حولها لتكون اكثر عطاءا ومنفعة لمجتمعها وبلدها،ومرت الأيام وحان موعد التخرج
ومواجهة الأحلام والتطلعات واكتشاف ما كان منها مستندا على قناعة ومبدأ وما كان معلقا بشطحات الطلبة ومشاغباتهم
ومحاولاتهم اثارةالإنتباه لا أكثر.حان الوقت لإكتشاف هل كانت كل الأنشطة الطلابية والمداخلات والعرائض مجرد اثبات
وجود وطاقة فائضة أم إنها تستند على الكثير من الجدية وتقرير المصير ..؟؟
إنها موعد الإنسلاخ عن مرحلة التمرد والإ مبالاة وعدم التقيد بالقوانين والأدوار المرسومة.إن التخرج يعني الوظيفة والتحول الى
جزء من القطيع والذوبان في اللوائح العتيقة والتحول الى رقم في سجلات الموظفين، وكان بالنسبة الى سارة مواجهة التحدي ايضا
وفرض المصير.فلم تتخلى عن حلمها بالعمل في المؤسسة رغم التجاهل والصمت والرفض الذي قوبلت به من قبل وعلى الرغم من الخبرات
السابقة التي منتها بالخيبة والتجاهل فقد قدمت اوراقها للمؤسسة دون أن تعير انتباهها للأهمال المتوقع لأوراقها وواجهت من جهة
أخرى حربا صعبة في المنزل .!! فهي لم تستشر أحدا في خطوتها ولم تأخذ رأي اهلها في الموضوع ، ولم تردد منذ البداية في اختيار طريقها ..
كانت تعرف هدفها وتتوجه اليه بتصميم ، ولا يهمها ما قد يقولون لإنه لن يغير من الواقع شيئا ولا يستطيع ، فهذا ضد طبيعة
الأمور ، ويتنافى مع ما تؤمن به وما تعتنقه وما يعبر عنها ، انها تعيش وتتنفس وتتصرف داخل عالمها المحدد الواضح الرحب
ولا يعني لها شيئا عالم الآخرين او وجهة نظرهم ..!!ولم يغرها كونها من اوائل الدفعة ومرشحة لتكون معيدة بالكلية فلم تتصور
نفسها يوما بأن تكون استاذة جامعية أو مدرسة علوم في احدى المدارس كانت الصورة التي تأسرها في إطارها كمهندسة مختبر
في احدى المعامل ، وتفوقها ليس للحصول على للأستاذية في الجامعة بل للتعمق والبروز بالتخصص نفسه ..!!
كان والدها من الرجال العصاميين الذين يعيشون كأغلب اهل البلاد على الفطرة ، ولم تكن المظاهر والتزلف والتعقيدات
الإجتماعية قد ظهرت بعد.كانوا ينظرون بحب ودهشة لبناتهم وقد تعلمن وبدأن يناقشن ويتعاطين الأمور التي كانت حكرا على الرجال.
كان شعور والدها فخرا ممزوجا بإسقاط النظرة الأبوية الحانية العطوف على ابنته الصغيرة التي سيصبح لها كيان اقتصادي
منفصل كأخيها والتي سيكون لها شخصيتها الأعتبارية كأول امرأة في عائلته تتخرج من الجامعة وتخرج للعمل ولا تتذكر ما هي ردة
فعلة على كلامها لإنها لم تمنحه هذا الحق بل كانت تندفع بالكلام بحماس عند عودتها من الجامعة عن الأحداث التي صادفتها
وتعلق عليها وتنتقدها دون أن تنتظر من الآخرين تعقيبا أو ملاحظة.لم تكن بحاجة الى رأي والدها في موضوع كان محسوما
اصلا لديها من البداية،اما والدتها فقد كانت اكثر ارتباطا بكلام الناس ولغو النسوة واسقاطاتهن الخبيثة ..!!
كانت لا تتقبل وجود ابنة لها تخرج للعمل في مجال مختلط مهما كانت محتشمة وخلوقة.ولا تريد ان تفهم معنى كينونة العمل في المنشأة
الصناعية واختلاف ذلك عن العمل بستر وهدوء كمدرسة في احدى مدارس البنات ..!!
ولم تكن تفهم كثيرا معنى ان تكون ابنتها معيدة في الجامعة حيث انها من الأوائل ومرشحة لتكون من الهيئة التدريسية القادمة
وكان لديها ذلك اهون من العمل في مكان آخر على الأقل ستظل بالجامعة كموظفة بدلا من طالبة،اما اخوتها الثلاثة ..
عبدالرحمن الأكبر فهو المتزوج الوحيد من الأبناء ومنشغل بأمور عمله وحياته العائلية ولم يعرهم اهتماما بهذا الموضوع.
ومع إنه مقيم مع اول طفلين رزق معهما في بيت والده بإنتظار ان يتسلم بيته الشعبي الذي يستحقه كغيره من المواطنين الموظفين
إلا إن روحه المرحة ونظرته للأمور من باب السخرية والإستخفاف جعلته يتناول الأمور من باب التندر والتهوين
اكثر من التوتر والعصبية والحنق،أما غانم .. الأخ الأوسط فسرعان ما ترك الجامعة التي لم يكملها وانخرط في الجيش
ولم يهتم كثيرا بأفكار اخته او موقف امه التحريضي ضدها على الأقل لديها شهادة جامعية بتقدير امتياز بتخصص علمي مرموق ..!!
وكان ذا طبيعة مسالمة تميل الى الهدوء والعقلانية.وبينما حسن اصغر العنقود الذي كان يتمتع بطبيعة عدوانية تميل للعنف
وتنقاد بسهوله لما يسمعه من الآخرين فقد كان الوحيد من العائلة الذي التحق ببعثة للدراسة بالخارج بجامعة القاهرة وكان
يعتبر غائبا لعدم سهولة الإتصالات في تلك الفترة ولإنهماكة بحياتة الإجتماعية والدراسية الجديدة،اما شقيقتها الوحيدة وضحة
التي تزوجت مبكرا وانجبت حتى ذلك الوقت اربعة من اطفالها حيث جاء نواف آخر العنقود بعدها بثلاث سنوات فقد كانت
موزعة الجهد بين سارة ووالدتها فمن جهة كانت تؤيد الوالدة من حيث أهمية ان تكون اختها معيدة في الجامعة.
حيث يكفل لها الوضع العلمي والإجتماعي والإقتصادي اللائق بدلا من الشحططة والبهدلة بالقطاع الصناعي ويا ريت
عند إناس يعرفون قدرها بل من الآن يجاهرون بعدم سلامة وضعها لديهم ولا يتقبلون وجود النساء بينهم.
ومن جهة اخرى كانت تحترم قناعات اختها كإنسانة لها حق تقرير المصير ولو كان ضد ما يراه الآخرون.
وقد قادت حربا من نوع آخر مع زوجها الذي كان رافضا لفكرة عمل سارة في المؤسسة الصناعية لإنها ضد قناعته
بعدم خروج بنات الإسر الى هكذا اماكن.كان ينقل قهره الى وضحة وهو يقول لها ماذا سيقولون الآن في المجالس عن شقيقتك ..؟؟
هل انتم مجانين ..؟؟ كيف يرضى والدك واخوك المغفل عبد الرحمن.. الا يحرك هذا شيئا في داخله ..؟؟ كان عبدالرحمن
من اصدقاء احمد منذ صباهم فقد كانوا ابناء حي واحد وبسبب هذه الصداقة استطاع احمد ان يلمح وضحة التي كانت وقتها
ما زالت في المدرسة ويعجب بها ويصمم على الزواج منها.وقد عانت وضحة الأمرين في مداراة خاطر زوجها ومحاولة
عدم اثارة الموضوع او تطوراته امامه والسكوت عندما يأتي على ذكره والتغاضي عن عبارات التهكم والتشنيع التي كانت
تختلط بكلماته الغاضبة لإنها تعلم بأنه يخاف على سمعة سارة ويعاملها كشقيقته الصغيرة ويشعر بأن أي كلام عليها
سيمسه ولن يتوانى عن الشجار مع قائله،ولكن سارة لم يهمها كل ذلك .. فالأمر اشبه بزوبعة لمعركة لم تحدث بعد ..!!
وقد ظلت المؤسسة على رفضها المتصلب للكفاءات النسائية الوطنية ..؟؟لكن هناك شيئا داخلها لا يراه غيرها يجعلها تشعر
بالأطمئنان والأمان.شيئا حتى ولو ارادت التعبير عنه لا تستطيع الإدلاء به لإنها لا تملك الأدلة على حدوثه او صدقه ..
إنه احساس داخلي جارف ، وهل يمكن ان يقدم الإحساس كدليل ملموس ..؟؟ انه انجذابها وتفاعلها مع شخصية الطان.
واسلوبه الهادئ المسالم وربما الأبوي في تقبل اقتحامهم لإجتماع مجلس الإدارة.الم يساعدها لتقول كلمتها وقد الجمها بالفعل
الأستقبال المستهجن والإستياء الذي علا وجوه الحاضرين وربما لولا إنه اسكت الغوغائيين بحركة بسيطة آمرة من يده، لما
تسنى لأي من الطالبات شرح سبب حضورهن ولتم اخراجهن من الإجتماع وهن منكسات الرأس ومكسورات الخاطر ولقضى
على حماسهن واندفاعهن ومساعيهن ذات التطلعات العالية،وبالإضافة الى إنه ترك لهن المساحة التي يطلبونها للتعبير عن انفسهن
وتوصيل صوتهن فإن ردة فعله التي وصلتهن بعد ذلك من تعليقات الموظفين التي تم تناقلها لتصل الى احدى الطالبات التي رددها
بفرح للبقية لقد اعتبر محاولتهن بإثبات الوجود موقف يستحق التفكير والإحترام،هل اصبحت تحب منقذها عرفانا بجميله واعجابا بشجاعته.
كل الذي تعرفه انه بات بطلها منذ ذلك الوقت وتابعت اخباره في الصحف وتصريحاته في الإذاعة وقد عزمت ان تكون مساعده وجانبه
الأمين الذي يرتكن عليه للنهوض بإمكانات المؤسسة،وعندما ادركت بأنه لا فائدة من عرض اوراقها على ادارة الشئون المالية والإدارية
في المؤسسة لأنه ليس هناك اسهل من كلمة لا لتحسم المواضيع التي لا يتحمسون لها ، ولإنها تأنف ان تنزل من مستواها لتطلب من احد
المسئولين بالإدارة بالأسم مساعدتها بعدما خبرت نفسياتهم المجردة من الإحساس بروح العمل والرغبة الفعلية بتطويره وتنميته.
استخارت ربها وقدمت الطلب رأسا الى مكتب سلطان مع رسالة توضح فيها كل ما عانته في الجامعة والبيت لتعمل بالمؤسسة
بالذات وإن حكمه سيكون النهاية بتحديد حياتها كلها ، والموضوع بيده بإمكانه ان يفتح طاقة جديدة وجريئة في مؤسسته لا تقبل
الجامعيات فقط من النساء ولكن تهتم بعملية التغيير والبناء على اسس حديثة ومتطورة وطموحة أو أن يهمل الرسالة وتظل المؤسسة
تتخبط في فوضاها بلا مبرر حكيم تقدمه للأجيال المتطلعة لتقديم الأفضل،وعندما سلمت الرسالة واوراقها الجامعية وشهاداتها المطلوبة
للحصول على الوظيفة احست انها تضع مصيرها بين يديه .. بطلها والنبراس الذي اضاء قلبها ، فيا ترى هل يكون مصير طلبها
الرفض ، فتفقد الأثنين .. حلمها الذي شيدته على مر الأعوام والأيمان بالإنسان الذي حرك عواطفها وملأ عقلها ..؟؟
يتبع