بنت النيل
بيانات اضافيه [
+
]
|
رقم العضوية : 528
|
تاريخ التسجيل : Mar 2012
|
أخر زيارة : 08-25-2020 (10:59 PM)
|
المشاركات :
36,790 [
+
] |
التقييم : 228073882
|
الدولهـ
|
الجنس ~
|
|
لوني المفضل : Crimson
|
شكراً: 201
تم شكره 564 مرة في 463 مشاركة
|
تاريخ بني اسرائيل في القران
[frame="10 10"]
اللقاء الثاني والرجفة ونتق الجبل:
وبناءً على ما كان منهم, اختار موسى (70) رجلا من أفضلهم, للاعتذار عما فعله السفهاء من قومه {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف:155] فشهدوا الوحي بمعية موسى عليه السلام دون سماعه, وشعروا بوجود خالقهم وعظمة قدرته بأن زلزل الأرض من تحت أرجلهم.
أخذ الميثاق, وإلزام النقباء الاثنيّ عشر بالسهر على تطبيقه, والحكم بما جاء فيه:
وهناك عُرض عليهم الميثاق ليلتزموا به ويلزموا أتباعهم على القيام به, ويتحملوا مسؤولية نقضه فتردّدوا وأبَوْا, فرفع سبحانه فوقهم الجبل وأجبرهم على أخذه بالقوة, ولو أصرّوا على الرفض لأطبقه عليهم فقبلوه على مضض, وكان الله أعلم بما يعتمل في صدورهم ولكنه غفور رحيم, حيث قال فيهم: {وَإِذْ أَخَذْنَا ميثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:93].
فاختير من السبعين رجلا (12) نقيبا, بعدد الأسباط (أي قبائل بني إسرائيل) وهم الذين تُسميهم التوراة بالقضاة. وهذا نص الميثاق الذي أُلزموا بالعمل على تطبيقه, بالإضافة إلى الوصايا الواردة في سورة الأنعام {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمْ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [المائدة:12].
رفض المن والسلوى وطلب القثائيات, والحكم عليهم بالنزول في موطن زراعتها:
كانت مدة المكث بادئ الأمر في الصحراء بسيطة, وذلك لتذمّرهم وعدم صبرهم على طعام واحد, أي المنّ والسلوى, فحكم عليهم سبحانه بإكمال المسير المقدّر مسبقا, بقوله على لسان موسى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَمُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة:61] وحيث أنه قال {مِصْراً} منونةً, ولم يقل {مِصْرَ} بدون تنوين, فهي غير مصر التي خرجوا منها, وإنما جاءت هنا بمعنى (بلداً) نكرة وغير معرّفة, وقوله {فإنّ لكم ما سألتم} تعني أن هذا البلد يتميّز, بأن فيه ما سأله بني إسرائيل من نبيهم من عدس وبصل وغيره, ولو تساءلنا عن موقع هذا البلد, القريب من الأرض المقدسة, الذي يتميز بخصوبة أراضيه ووفرة مياهه من ينابيع وآبار ويصلح لزراعة القثّائيات, بالتأكيد ستكون الإجابة الأرض الواقعة شرق نهر الأردن, وفي السفوح الغربية للجبال المطلة على فلسطين, وبالتحديد قرية مدين التي يعرفها موسى, ويعرف ميّزاتها وخصائصها, والتي كان أهلها قد هلكوا بعذاب يوم الظلّة, قبل أو بعد خروج موسى منها, ليرثها بنوا إسرائيل مع القلة المؤمنة, من قوم شعيب التي نجت من العذاب, والله أعلم. دخول مدين والمُقام فيها: قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:58], وقال في آية أخرى: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمْ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ} [الأعراف:161-162], ولم يكن المقصود بهذه القرية الأرض المقدسة, كونهم دخلوها حربا, بعد موسى عليه السلام بأربعين عاما على الأقل, وهذه القرية سُكنت حقيقة بدخولها بلا قتال بمعية موسى عليه السلام, وقد بدّل الذين ظلموا منهم -أي العُصاة- القول والهيئة عند الدخول, فأرسل عليهم سبحانه رجزا من السماء. وقوله قبل الدخول: {وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ} وقوله لهم في النص الآخر: {فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} يوحي بأنها سكنى مؤقتة, ولم يكن لديهم علم بأنه سيكون هناك ما بعدها, وهو الاستعداد والتهيئة لدخول الأرض المقدسة, فأفشلوا أنفسهم في الدخول الأول لتلك القرية, فاستحقوا غضب الله عليهم, وأفشلوا أنفسهم عندما أُمروا بالدخول الثاني بلا حرب, فأفشلهم الله وأذهب ريحهم. وقد قيلت هذه العبارة لآدم عليه السلام وزوجه {وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة:35] قبل دخوله الجنة ولم يكن لديهما علم بأن الإقامة فيها مؤقتة, وأن هناك ما بعدها, وسيحاطون به علما عند وقوعه, وفي موعده المقدر المضمر في علم الله, ولكن بعد فوات الأوان. وإن لم تكن مدين هي القرية التي دخلها بنوا إسرائيل وأقاموا فيها, فهي قرية تقع في نفس المنطقة, والله أعلم. الخسف بقارون, ورحلة موسى والفتى, وذبح البقرة: أقام بنو إسرائيل في مدين بمعية موسى -على ما يبدو- سنين عديدة, واطمأنوا بها وإليها وطاب لهم المقام فيها, حيث الزراعة وتربية المواشي والتجارة, ومن الأحداث التي نعتقد أنها وقعت فيها قصة البقرة {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67], وقصة سفر موسى حيث مجمع البحرين, للالتقاء بالعالم, {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقبًا} [الكهف:60] وقصة قارون المعروفة {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَليْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76]. الأمر بدخول الأرض المقدّسة وتحريمها عليهم وتيههم شرقي النهر: وبعد مدة من مكثهم في مدين, أمرهم موسى بدخول الأرض المقدسة (فلسطين), ولم تكن هناك حاجة للقتال آنذاك فرفضوا وعصوا لقلة إيمانهم, وأخلدوا إلى الأرض وتذرّعوا بحجج واهية ليبرّروا اتكاليتهم وعجزهم, فدعا موسى ربه ليحكم بينه وبينهم, فاستجاب له ربه {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:26] فكان تحريم الدخول لمدة أربعين سنة ومن ثم التيه في الأرض. والتيه لغة الحيرة والضلال, ورجل تائه وتيّاه إذا كان جسورا يركب رأسه في الأمور, وفي الحديث: إنك امرؤ تائه, أي متكبر أو ضال متحيّر. والمراد من ذلك أنهم تُركوا على رؤوسهم, وحُرموا من قيادة الأنبياء, بأن الله تخلى عنهم وحرمهم من رعايته لهم, ورفع عنهم الوحي وتركهم بلا هداية, بعد موت موسى عليه السلام, على مدى 40 سنة, ولم يُقصد بالتيه الضياع والتشرّد المكاني في صحراء سيناء كما كنا نعتقد سابقا. والصحيح أنهم حافظوا على تواجدهم, كأمة مكونة من 12 جماعة شرقي نهر الأردن, وأُوكلت قيادة كل جماعة إلى أحد النقباء الاثني عشر, كل حسب السبط الذي ينتمي إليه بعد انقطاع قيادة الوحي, وهذا مما ينفي نبوة فتى موسى المسمى بيوشع بن نون. وهنا تتضح الحكمة من جراء إلقاء مسؤولية حفظ الميثاق وإقامته, على النقباء الاثني عشر بعد وفاة موسى وانقطاع الوحي والعناية الإلهية. وهذا ما حاول مؤلّفو التوراة إخفاءه بتبديل مواضع الكلم, فجعلوا المن والسلوى تتنزّل عليهم لمدة أربعين سنة في الصحراء, وهي عدد سنين التحريم والتيه التي كانوا يأكلون فيها البصل والعدس. ويدّعي كتبة التوراة أن بني إسرائيل, أثناء قدومهم إلى الأرض المقدسة بمعية موسى عليه السلام, قد قاتلوا أقواما كثيرة شرق نهر الأردن وانتصروا عليها, ويدّعون أيضا أنهم هاجموا الكنعانيين بعد موسى, وهدموا أسوار مدينة أريحا بمعية يوشع بن نون, وأنهم أقاموا زمن القضاة غرب النهر. وهذا كله محض افتراء وتلفيق, فكيف يقاتل من طلب منه مجرد الدخول ولم يدخل, ولفظ الدخول في القرآن يوحي بانتفاء القتال, ونص الحوار الذي دار بين موسى وقومه لدخولها تجده كاملا في الآيات 20-27 من سورة المائدة. زمن الإخبار بنص نبوءة الإفساد والعلو في الأرض: وبعد مدة يسيره من الزمن من ذلك الحكم, كشف موسى عليه السلام النقاب عن النبوءة موضوع هذا الكتاب, وأخبر عنها قبل أن ينتقل إلى جوار ربه. وتركهم في غيهم وطغيانهم يعمهون, كما حكم عليهم ربهم, وأُوكل الأمر من بعده إلى النقباء الاثني عشر أصحاب الميثاق, ليحفظوا التوراة وليحكموا بين الناس بما جاء فيها, ومن ذلك اليوم انتقلت مسؤولية حفظ التوراة والشريعة إلى أناس عاديين, فبدأ ظهور الأحبار, قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة:44]. طلب المُلك لدخول الأرض المقدّسة بعد نهاية سنوات التيه: قال تعالى: {إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:246] وبعد انقضاء سنون التيه الأربعون, التي عاشوا خلالها شرقي نهر الأردن, بُعث فيهم نبيا, يدّعون في التوراة أن اسمه (صمويل), وربما لتعرضهم لضيق العيش والاضطهاد والغزو, من قبل الممالك المجاورة شرقي النهر, طلبوا من هذا النبي أن يسأل الله ليبعث لهم ملكا, قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى, إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:246] بغية دخول الأرض المقدسة التي كتب الله لهم, فبُعث لهم طالوت ملكا وأنزل الله لهم التابوت تحمله الملائكة آية لملكه, كونهم لا يؤمنون إلا بما هو محسوس, فأعدّهم ونظّم صفوفهم واجتاز بهم نهر الأردن على ألّا يشربوا منه فشربوا منه إلا قليلا, وكانت المواجهة مع الكنعانيين -على الأرجح في سهول أريحا- {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ} وقتل داود -الذي كان من جنود طالوت- جالوت قائد الكنعانيين فدخلوا القدس, ومن ثم انتقل المُلك لداود عليه السلام بغض النظر عن الكيفية {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة:251] ونص هذه الأحداث كاملا تجده في الآيات 246 - 251 من سورة البقرة, وكانت هذه أول معركة يقاتل فيها بنو إسرائيل, وكان جيشهم يتألف من القلة المؤمنة, التي لم تكن قد شربت من النهر (نهر الأردن), وكان هذا هو الدخول الأول لبني إسرائيل إلى الأرض المقدسة. داود عليه السلام يؤسس أول دولة لليهود في القدس: قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَينَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الجاثية:16] هذه الآية تشير إلى أن هناك خمسة أمور اجتمعت لبني إسرائيل, وهي الكتاب أي الشريعة التي تركها لهم موسى عليه السلام, والحكم أي الملك, والنبوة أي الوحي, والسعة في الرزق, والتفضيل باختيارهم لحمل الرسالة السماوية في ذلك الزمان, وقد اجتمعت هذه الأمور الخمسة في زمن مملكتهم الأولى في الأرض المقدسة, حيث كان داود عليه السلام أول ملوكها. ملك داود عليه السلام: معظم الآيات التي أخبرت عن داود وملكه, كانت تركّز على شخص داود, حيث اتّصف عليه السلام بالورع والتقوى وكثرة العبادة, والعلم والقوة مع شيء من اللين في المعاملة, وتوحي بأن شغله الشاغل, كان توطيد أركان دولته الحديثة {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص:20] وإعداد ما استطاع من قوة للدفاع عن دولته الصغيرة, التي كانت محصورة في بيت المقدس وما حولها, من هجمات الأقوام المجاورة لها من الكنعانيين, ولم يكن يسعى لتوسيع رقعة الدولة, كون الأمة الإسرائيلية آنذاك كانت قليلة -وهي لم تكثر إلا في العصر الحديث, وبالتحديد بعد الحرب العالمية الثانية, حيث رُفع عنهم القتل- ولم تكن تستدعي امتلاك مساحة كبيرة من أرض فلسطين.
العودة إلى مصر:
وبعد أن قضى المدة المطلوبة منه {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ} [القصص:29] غادرها مع أهله وما تحصّل عليه من أغنام باتجاه مصر, وكان خط مسيره والله أعلم, باتجاه الجنوب شرقي البحر الميت, حيث انحدر بأهله إلى وادي عربة جنوب البحر الميت فضلّ الطريق, وهناك أتاه هاتف السماء, قال تعالى: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَمُوسَى} [طه:40] إلى موضع الوحي في الوقت المقدّر.
فأوكله الله بحمل الرسالة إلى فرعون, وأمره بالذهاب إلى فرعون, ومن هناك سار -بخط شبه مستقيم- مجتازا صحراء النقب جنوب فلسطين, وصحراء سيناء باتجاه بوابة مصر البرية من الشرق, ومن ثم سار جنوبا باتجاه القاهرة حيث إقامة فرعون وقومه.
تحديد الموقع الجغرافي للمكان الذي أوحي فيه إلى موسى عليه السلام:
نزل الوحي إلى موسى مرتين؛ الوحي الأول: هو الذي كُلف به موسى بحمل الرسالة, وما بعث به إلى فرعون وبني إسرائيل, أثناء عودته إلى مصر بعد خروجه من مدين, والوحي الثاني: هو الشريعة الجديدة التي كُتبت في الألواح لبني إسرائيل, بعد خروجهم من مصر في الطريق إلى الأرض المقدسة, ويعتقد الكثيرون أن الوحي نزل على موسى, على جبل سيناء الواقع في صحراء سيناء المصرية وهذا غير صحيح, حيث لم يوجد أي نص في القرآن يفيد ذلك.
والواقع أن هذه تسمية الصحراء المصرية بصحراء سيناء, استندت إلى ما جاء في التوراة مع أن التوراة لم تُحدّد موقع الصحراء أو الجبل.
وتذكر التوراة في سفر الخروج, أن بني إسرائيل مروا على التوالي, بثلاثة صحارى, هي الواردة في النص التالي بالترتيب: ثم ارتحل موسى بإسرائيل من البحر الأحمر, وتوجّهوا نحو صحراء شور, ثم بلغوا إيليم … 1: ثمّ انتقلوا من إيليم حتى أقبلوا على صحراء سين, الواقعة بين إيليم وسيناء. وجاء في نص آخر: 17: 1: وتنقل بنوا إسرائيل على مراحل, من صحراء سين … إلى أن خيّموا في رفيديم … 2: فقد ارتحل الإسرائيليون من رفيديم إلى أن جاءوا إلى برية سيناء, فنزلوا مقابل الجبل فصعد موسى للمثول أمام الله, فناداه الرب من الجبل … 20 : ونزل الرب على قمة جبل سيناء… وهذه النصوص تُشير إلى أن جبل سيناء, هو اسم الجبل الذي أُوحي بجانبه إلى موسى, وأن برية سيناء هي تسمية للمكان الواقع مقابل جبل سيناء.
وأن برية سيناء هي الأبعد عن مصر, كونها كانت آخر الصحارى التي مرّوا بها أثناء مسيرهم, باتجاه بوابة الأرض المقدّسة شرقي نهر الأردن, والترجمات العربية للتوراة لا تُميّز بين القفر, أي الخلاء غير المأهول بالسكّان وبين الصحارى الرملية القاحلة. وجاء في التوراة واقتات الإسرائيليون بالمنّ طوال أربعين سنة, حتى جاءوا إلى تخوم أرض كنعان العامرة بالسكان.
وهذا النص الكاذب والمضلّل, يقول أن المنّ والسلوى كانت تنزّل عليهم طيلة أربعين سنة, قبل وصولهم إلى مشارف فلسطين, أي قبل أن يُطلب منهم الدخول إلى الأرض المقدسة, وقبل أن يحكم عليهم بسنوات التحريم والتيه الأربعين.
والصحيح أن المنّ والسلوى كانت تنزّل عليهم خلال مسيرهم في الصحراء, وهي مدة قصيرة, أما سنوات التحريم والتيه الأربعين -سنوات الغضب الإلهي- فلم يكن يتنزّل عليهم شيء. وتسمية الصحراء المصرية بسيناء, وذكر التوراة أن بني إسرائيل عاشوا فيها أربعين سنة يأكلون المن والسلوى, ضلّلت حتى اليهود أنفسهم, الذين بحثوا ونقبوا فيها طويلا عن أي أثر لمقامهم فيها ولكن دون جدوى, مما اضطر بعض الباحثين اليهود مؤخرا, إلى تكذيب معظم روايات التوراة, ونشر الكثير من آرائهم ونتائج أبحاثهم في الصحف.
أما كلمة الطور فقد وردت في القرآن (10) مرات, (8) منها بلفظ (الطور) معرّفة بأل التعريف, بمعنى الجبل, وواحدة بلفظ (طور سيناء) {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} [المؤمنون:20], وواحدة بلفظ (طور سينين) بنفس المعنى السابق, {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ} [التين:1-2]. وسيناء وسنين لغة إذا لم تمنع من الصرف, أي لحقها التنوين جرّاً ونصباً فإنها تعني كثرة الشجر, وإذا مُنعت من الصرف كما هو الحال هنا فهي اسم, والكلمات (طور وسيناء وسينين) ألفاظ أعجمية, ومما تقدم نستطيع القول بأن (طور سيناء) اسم لجبل معروف لبني إسرائيل, بمعنى (جبل الغابة) وهو في الحقيقة, اسم الجبل الذي أوحيَ بجانبه إلى موسى, حسب تسمية التوراة له, وقد عُرّف هذا الجبل من خلال القرآن, بأنه يُنبت التين والزيتون.
والمقصود بكلمة (الطور) المعرّفة بألف ولام, أينما جاءت في القرآن هو طور سيناء أو سينين, والطور هو سلسلة جبال فلسطين, التي تربض على تلالها مدينة القدس, والتي هي في الأصل جبل واحد, يمتد من مدينة نابلس شمالا إلى مدينة الخليل جنوبا.
قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى موسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنْ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص:29] قلنا أن موسى عليه السلام, كان قد ضلّ طريقه بعد خروجه من مدين باتجاه مصر, لقوله عليه السلام: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} فوجد نفسه في أحد الأودية.
ودخوله إلى الوادي كان عن طريق انحداره بواد فرعي جنوب البحر الميت, وكان ذلك ليلا وفي طقس بارد جدا. وأثناء التخييم هناك, كان يلتفت يمنة ويسرة بحثا عن الدفء والهداية, فآنس نارا من جانب الجبل, فاتجه إليها بعد أن استأذن أهله, ليأتيهم بجذوة منها لأجل الدفء, أو يجد من يرشده إلى طريقه, ولكنه لم يجد نارا ولم يجد في المكان أحد.
نور لا نار:
{فَلَمَّا أَتَاهَا} أي النار وقف تحتها {فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ} [القصص:30] وفي الواقع لم تكن نارا, بل كانت نو)ر في شجرة, ونعتقد بأنها الشجرة الموصوفة في قوله سبحانه: {شَجَرَةٍ, مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور:35], وهي (شجرة) و(زيتونة) و(مباركة), أي تقع في بقعة من أرض مباركة ينبت فيها شجر الزيتون, وقوله: {لا شرقية ولا غربية} أي لا في الجانب الشرقي من وادي عربة, ولا في الجانب الغربي منه, فهي في منتصف الوادي تقريبا, وقوله: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} أي لها وهج من نور, وليس ذلك من اشتعال نار فيها, فهي مضيئة من تلقاء نفسها, وقوله: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} أي أن الإضاءة ناتجة عن زيت الشجرة, فلا يكون ذلك إلا وهي مثمرة, فالزيت يوجد في الثمر, وتشكل الزيت في الثمر, لا يكون إلا في بداية فصل الشتاء, ويؤيد ذلك طلب موسى عليه السلام للدفء, ليتأكد لنا أن دخوله إلى بطن وادي عربة كان في فصل الشتاء, وأن الشجرة التي نوديَ من تحتها في الوادي المقدس, هي نفس الشجرة الموصوفة في سورة النور, ولا أدري لماذا يتملكني شعور قوي, بأن هذه الشجرة قائمة في ذلك المكان إلى اليوم, في منطقة موحشة ومقفرة وغير مأهولة, تضيء كلما أثمرت في فصل الشتاء, والله أعلم.
{فَلَمَّا أَتَاهَا} وقف حائرا أمامها يتفكّر في أمرها, حيث أنه لم يجد ما جاء يسعى إليه, فلا نار ولا ناس يُشعلونها, وأثناء شروده وفي سكون الليل, {نُودِي يَمُوسَى} [طه:11] {مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ} [القصص:30], أي من الجانب الأيمن من الوادي, {مِنْ جَانبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} [مريم:52], أي من الجانب الأيمن للجبل وليس الأيسر, {بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} [القصص:44], أي الجبل الغربيّ وهذا تحديد جغرافي بالغ الدقة لمكان الوحي.
أتاه النداء باسمه ممن يعرفه, وذلك مما آنس موسى, ليبدّد سكون ذلك الليل الموحش, ويقطع عليه شروده وتأمله, ولا أخاله إلا قد أجفل عليه السلام, ولما التفت إلى مصدر النداء, خاطبه رب العزة قائلا: {إِنِّي أَنا رَبُّكَ} مطمئنا إياه ومعرّفا بنفسه {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه:12] فأمره بخلع نعليه -إذ هو في حضرة ملك الملوك- ليتجه حافي القدمين, سائرا في الجانب المقدس من الوادي, صوب الجبل, قال تعالى: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:52] أي كان الكلام مناجاة, والمناجاة عادة تستدعي القرب. نحن نعلم أن الأرض المباركة والمقدّسة هي أرض فلسطين, وبما أن الوادي الذي نزل فيه موسى واد مقدّس, فلا بد له من يكون واقعا في الأرض المقدّسة, وبما أن الشجرة نبتت في بقعة مباركة, فلا بد لها من أن تكون قائمة في الأرض المباركة, وبما أن شجرة سورة النور زيتونة مباركة ومضيئة, فلابد لها من أن تكون هي الشجرة, التي رآها موسى في بطن وادي عربة فظن نورها نارا, والله أعلم.
وعندما اقترب موسى بما فيه الكفاية لبدء المناجاة, ناجاه ربه قائلا {وَأَنا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه:13-14] فأمره بتوحيده وإفراده بالعبادة وإقامة الصلاة, ومن ثم منحه آيتيّ العصا واليد وكلّفه بحمل الرسالة, والذهاب لدعوة فرعون ودعوة بني إسرائيل إلى الله, {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24].
وفي الصباح عاين موسى عليه السلام المكان, وحفظه عن ظهر قلب فهو المكان الذي تغيّر فيه مجرى حياته عليه السلام, ولم كان يعلم عليه السلام ما يدبّره رب العزة من أقدار, ستأتي به إلى هذا المكان في قادم الأيام, عند خروجه بقومه من مصر, متجها إلى بوابة الأرض المقدسة حيث كان في أرض مدين.
موسى في مصر:
كنت أعتقد وربما يشاركني كثيرون أيضا, أن مُقام موسى في مصر, لا يتجاوز عدة أيام أو عدة أشهر على أبعد تقدير, ولكن تبين لي أني كنت مخطئا, فالأحداث والوقائع التي مرت مع موسى عليه السلام كثيرة, وتحتاج إلى سنوات عديدة, وأظنه مكث هناك ما لا يقل عن30 عاما, يدعو فرعون وقومه وبني إسرائيل أيضا, {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس:87] فلو تفكرت في الآية الكريمة, لتبينت أن طلبه سبحانه ببناء البيوت, وجعلها باتجاه بيت المقدس, وأَمْرِه إياهم بإقامة الصلاة فيها, ما كان إلا لطول مُقام, ولو كان مُقامهم قصيرا أو عارضا, لما أمرهم بذلك.
والجدل بين موسى عليه السلام وفرعون أخذ زمنا طويلا, بدءا باللقاء الأول الذي عرض فيه موسى رسالته, وما أيّدها به من آيات -العصا واليد- ولقاء يوم الزينة حيث التقى موسى بالسحرة, وبناء الصرح {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ} [القصص:38].
بناء الأهرامات:
الصرح هو البناء الضخم والمرتفع, وأعتقد أن الأهرامات الثلاثة هي ما أُمر هامان ببنائها من قبل فرعون لينظر إلى إله موسى, وفيما بعد اتُّخذت تلك الصروح مقابر ومدافن. إذ لو فُحِصت مادة بناء الأهرامات, لتبين أنها من الطين المشوي, لدلالة قوله تعالى {فَأَوْقِدْ لِي يَهَامَانُ عَلَى الطِّينِ}, إذ يخبر سبحانه -وما إعلامه لنا بذلك عبثا- بأنهم كانوا يستخدمون الطين في البناء, وليس الحجارة كما يعتقد علماء الآثار, الذين حاولوا جاهدين لتفسير الآلية المعقدة والمستحيلة, في رفع تلك الصخور ذات القطع الكبير, إلى قمة الهرم حيث لم يكن لديهم رافعات عملاقة.
وهذا الخبر يكشف حقيقة, ربما لم تخطر ببال علماء الآثار من قبل, ويجعل كيفية البناء غاية السهولة, حيث كان عبيد فرعون ومنهم بني إسرائيل, ينقلون الطين -وليس الصخور والحجارة- ويضعوه في قوالب مثبتة على الهرم نفسه, وكل لبنة في موقعها, وينتظرون اللَبِن حتى يتماسك, لينزعوا القوالب, وكلما أنجزوا مرحلة, قاموا بتثبيت القوالب مرة أخرى, على ما تمّ إنجازه, وبدءوا بنقل الطين ليفرغوه فيها, وهكذا دواليك حتى يكتمل بناء الهرم.
ومن الداخل ستجد أن قلب الهرم مفرغ, وستجد أن هناك سراديب طويلة غير نافذة, تتوزّع بكافة الاتجاهات, والغاية منها توزيع الحرارة, عند إشعال النار في قلب الهرم لشيّ الطين الجاف, وهي عملية تحتاج إلى وقت طويل نظريا, ولكن مع كثرة العبيد فالأمر مختلف, والآلية بسيطة وليست معقدّة, ولا توحي بأن الفراعنة كانوا جبابرة وأشداء, فبناة الأهرام هم العبيد وليس الفراعنة أنفسهم, وربما يكون شيّ الطين قد تم على مراحل, وليس دفعة واحدة.
وهذه الفكرة مطروحة للمختصّين لنفيها أو إثباتها, وبذلك تكون الأهرامات, رمزا من رموز الكفر والعصيان والتمرد والتحدي الفرعوني لله ورسوله, وربما يكون أبو الهول هو إله المصريين القدماء, قبل أن يُعلن فرعون ربوبيته تحديا لموسى عليه السلام وربه.
وبالإضافة إلى تلك الأحداث, التي وقعت أثناء تواجد موسى في مصر, ما وقع في قوم فرعون من البلاء الذي أنزله الله, وكلما كشف عنهم بلاء أرسل عليهم آخر, {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ ءَايَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الأعراف:133].
وستجد ما مرّ بقوم فرعون من وقائع, أثناء تواجد موسى في مصر, قد سُردت بإيجاز في الآيات (103-136) من سورة الأعراف, والآيات (85-90) من سورة النمل, ومواضع أخرى متفرقة في القرآن الكريم.
وفي نهاية المطاف {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس:88] أي الغرق, فاستجيبت دعوة موسى, وهذا بالضبط ما حصل مع فرعون {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] ولو تمعنت في قول فرعون لتبينت أنه لم يؤمن, لقوله {الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ}, وأغلبية بني إسرائيل لم تكن تؤمن بالله, ولم يقل الله أو إله موسى تكبرا وعلوا.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:134], وقال أيضا: {وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:18].
خروج موسى ببني إسرائيل من مصر:
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} [طه:77], نتبين من ذلك أن خروج موسى بقومه إلى البحر كان بوحي من ربه, وإن لم يخب ظني فقد اتجه صوب البحر الأحمر مباشرة, أقصى الشمال من خليج السويس, وبعد أن خرج بقومه من البحر, اتجه شرقا وشمالا بخط شبه مستقيم, متجاوزا صحراء سيناء وصحراء النقب, حيث المدخل الجنوبي لوادي عربة, وسار شمالا في بطن الوادي, حتى الجبل المعهود جنوب البحر الميت, ليستقبل الوحي بناءا على الموعد المسبق, الذي ضرب بينه وبين ربه, بعد النجاة من فرعون وقومه, قال تعالى: {يَبَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ} [طه:80], وهذه الآية تدل على عدم مكوثهم لفترة طويلة, في أي من صحراء سيناء أو النقب, وأن وجهتهم كانت حيث المكان الموعود, وكان موسى يستعجل المسير وهم يبطئون, وبعد تلقيه الوحي, صعد بقومه إلى المرتفعات الشرقية, ودخل الأردن عن طريق الوادي الذي نزل به في المرة السابقة, ملتفا حول مملكة الآدوميين ومملكة الموآبيين شرقي البحر الميت, ليصل إلى مكان إقامته السابق, حيث كان سفيرا لبني إسرائيل -ولم يكن يعلم بذلك آنذاك- في مدين قرية شعيب عليه السلام, ليُمَهّد لهم طيب الإقامة فيها مستقبلا.
ترتيب الأحداث التي مرت بموسى وبني إسرائيل خلال تلك الرحلة الطويلة الصاعقة والبعث بعد الموت:
في رحلته مع بني إسرائيل, في طريق العودة من مصر إلى مدين, كانت ترافق موسى عليه السلام أمّة بأسرها بما لها وما عليها, وأكثرها من غير المؤمنين وغير المطيعين لله تعالى وله عليه السلام, مما جعل المسير فيها بطيئا وشاقا وطويلا, قال تعالى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} [يونس:83], وقال أيضا: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:55-56], وكان قولهم هذا فور نجاتهم وخروجهم من البحر, بعدما رأوا كل ما أجراه الله على يد موسى من معجزات, تلين لها قلوب الجبال وعقولها, فأماتهم الله ثم أحياهم, ولو نظرت إلى قولهم في الآية السابقة واستخدام أداة الجزم والتأبيد {لن}, تجد أن لديهم إصرار عجيب على الكفر, بما هو غيبيّ ومحجوب عن حواسّهم, رغم مشاهدتهم للآيات والآثار الدالة على وجوده, وأنهم لا يؤمنون إلا بما تدركه الحواس من أشياء مادية, وهذا ما جعلهم يقعون في فتنة العجل الذهبي بعد هذه الحادثة, وفي فتنة الدجال مستقبلا بما لديه من فتن مادية ظاهرة للعيان {فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ, اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء:153] وقد وقع هذا منهم قبل اتخاذهم للعجل.
تفجير الماء ونزول المنّ والسلوى والتظليل بالسحاب أثناء المسير:
وبناءً على ما سبق, كان خط مسير الرحلة في معظمه في صحاري قاحلة, وكل ما كان بحوزتهم من طعام وماء أثناء الخروج, كانوا قد استنفدوه في أيامهم الأولى, قال تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذْ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنْ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمْ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الأعراف:160] ومن هذه الآية الكريمة نجد أنهم قُسّموا إلى (12) جماعة لتيسير عمليّه القيادة, ومنّ عليهم ربهم سبحانه عما يصفون, بأن وفّر لهم كل أسباب الراحة من ماء وغذاء, وحتى أنه وقاهم من حر الشمس بأن جعل السحاب يظللهم, أينما حلوا وأينما ارتحلوا أثناء مسيرهم باتجاه الأرض المُقدّسة, وفي تلك الأثناء مرّوا على عبدة الأصنام, فطلبوا من موسى أن يجعل لهم إله كما لهؤلاء آلهة {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:138].
ولا يغيب عن بالنا أن رحلة كهذه كانت تستوجب ما بين فترة وأخرى التخييم والإقامة لبعض الوقت, ومن ثم متابعة المسير وهكذا دواليك, ولم تتعدى مدد الإقامة في أي من مراحل المسير, سوى أيام أو أسابيع معدودة, فهم لم يركنوا إلى مكان معين, إذ كان هناك مواعدة للقاء في جانب الطور الأيمن في وادي عربة, وكانت هذه المواعدة جماعية لموسى ولبني إسرائيل, ولكنّ موسى عليه السلام وبعد أن قطع شوطا كبيرا في وادي عربة استعجل اللقاء, وعندما اقترب من المكان المحدد, استخلف أخيه هارون في قومه وتركهم ومضى مسرعا رغبةً منه في إرضاء ربه, واعتذارا عن التأخير الذي تسبّب به قومه من جرّاء مماطلتهم وتذّمرهم.
اللقاء الأول لموسى بربه بعد الخروج من مصر, واتخاذ العجل في بطن وادي عربة:
قال تعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَمُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:83-84] وهناك كان موسى عليه السلام, مشتاقا ومندفعا فطلب رؤية ربه, وكأنه نسي ما كان من قومه, فطلب من ربه ما طلبه قومه منه {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143] فصُعق موسى كما صُعق قومه من قبل, وبعدما أفاق أُعطيت له الألواح التي تحمل في ثناياها الشريعة الجديدة لبني إسرائيل, {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} [الأعراف:145].
ومن ثم أخبره ربه بأن قومه فُتنوا من بعده, بعبادتهم للعجل الذهبي الذي ابتدعه السامريّ {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ} [طه:85], وكانت عقوبة الشرك بالله غاية في القسوة {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:54], وتوحي هذه الآية بأن الأمر كان مُلزما, وقبول التوبة كان مشروطا بقتل النفس, فمن رغب في التوبة آنذاك ممن عبدوا العجل, قتل نفسه حقيقة وقُبلت توبته, والله أعلم.
وبالنظر في قوله تعالى, على لسان موسى مخاطبا السامريّ: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} [طه:97], نجد أن العجل الذهبي قد حُرّق ورُمي في البحر, وأقرب بحر لمقام بني إسرائيل في وادي عربة هو البحر الميت.
رابط المادة: http://iswy.co/euo5l
[/frame]
|