عرض مشاركة واحدة
قديم 05-11-2011   #4


الصورة الرمزية الغزال الشمالي
الغزال الشمالي غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 218
 تاريخ التسجيل :  Apr 2011
 أخر زيارة : 07-10-2013 (07:01 PM)
 المشاركات : 2,111 [ + ]
 التقييم :  119
لوني المفضل : Cadetblue
شكراً: 0
تم شكره 2 مرة في 2 مشاركة
افتراضي




ومشيت وأنا منكسر منقبض، وكأني نسيت كلمة الشيخ: "لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة". فذكرتها وصرفت خاطري
إليها وشغلت نفسي بتدبرها وقلت: لو أني أشبعت ثلاثة بجوع اثنين لحرمت خمس فضائل ( يريد جوعه، وجوع امرأته،
وجوع ابنه، ثم شبع هذه المرأة، وشبع ابنها، فهذه خمس فضائل.) وهذه الدنيا محتاجة إلى الفضيلة، وهذه الفضيلة
محتاجة إلى مثل هذا العمل، وهذا العمل محتاج إلى أن يكون هكذا، فما يستقيم الأمر إلا كما صنعت.
وكانت الشمس قد انبسطت في السماء وذلك وقت الضحى الأعلى، فملت ناحية وجلست إلى حائط أفكر في بيع الدار
ومن يبتاعها، فأنا كذلك إذ مر أبو نصر الصياد وكأنه مستطار فرحًا، فقال: يا أبا محمد، ما يجلسك ههنا وفي
دارك الخير والغنى، قلت: سبحان الله! من أين خرجت السمكة يا أبا نصر؟
قال: إني لفي الطريق إلى منزلك، ومعي ضرورة القوت أخذتها لعيالك، ودراهم استدنتها لك، إذا رجل يستدل الناس على
أبيك أو أحد من أهله, ومعه أثقال وأحمال، فقلت له: أنا أدلك. ومشيت معه أسأله عن خبره وشأنه عند أبيك. فقال:
إنه تاجر من البصرة، وقد كان أبوك أودعه مالا من ثلاثين سنة، فأفلس وانكسر المال ثم ترك البصرة إلى خراسان،
فصلح أمره على التجارة هناك، وأيسر بعد المحنة، واستظهر بعد الخذلان، وأقبل جده بالثراء والغنى؛ فعاد إلى
البصرة, وأراد أن يتحلل، فجاءك بالمال وعليه ما كان يربحه في هذه الثلاثين سنة، وإلى ذلك طرائف وهدايا.
قال أحمد بن مسكين: وأنقلب إلى داري فإذا مال جم وحال جميلة! فقلت: صدق الشيخ: "لو أطعمنا أنفسنا هذا ما
خرجت السمكة"! فلو أن هذا الرجل لم يلق في وجهه أبا نصر، في هذه الطريق، في هذا اليوم، في هذه الساعة،
لما اهتدى إلي؛ فقد كان أبي مغمورًا لا يعرفه أحد وهو حي؛ فكيف به ميتا من وراء عشرين سنة؟
وآليت ليعلمن الله شكري هذه النعمة؛ فلم تكن لي همة إلا البحث عن المرأة المحتاجة وابنها، فكفيتهما وأجريت عليهما رزقا،
ثم اتجرت في المال، وجعلت أربه بالمعروف والصنيعة والإحسان وهو مقبل يزداد ولا ينقص، حتى تمولت وتأثلت.
وكأني قد أعجبتني نفسي، وسرني أني قد ملأت سجلات الملائكة بحسناتي، ورجوت أن أكون قد كتبت عند الله في الصالحين،
فنمت ليلة فرأيتني في يوم القيامة والخلق يموج بعضهم في بعض، والهول هول الكون الأعظم على الإنسان الضعيف،
يسأل عن كل ما مسه من هذا الكون. وسمعت الصائح يقول: يا معشر بني آدم! سجدت البهائم شكرًا لله أنه
لم يجعلها من آدم. ورأيت الناس وقد وسعت أبدانهم فهم يحملون أوزارهم على ظهورهم مخلوقة مجسمة،
حتى لكأن الفاسق على ظهره مدينة كلها مخزيات!
وقيل: وضعت الموازين. وجيء بي لوزن أعمالي، فجعلت سيئاتي في كفة وألقيت سجلات حسناتي في الأخرى،
فطاشت السجلات ورجحت السيئات، كأنما وزنوا الجبل الصخري العظيم الضخم بلفافة من القطن.
ثم جعلوا يلقون الحسنة بعد الحسنة مما كانت أصنعه فإذا تحت كل حسنة شهوة خفية من شهوات النفس:
كالرياء والغرور وحب المحمدة عند الناس وغيرها، فلم يسلم لي شيء, وهلكت عني حجتي،
إذ الحجة ما يبينه الميزان، والميزان لم يدل إلا على أني فارغ.
وسمعت الصوت: ألم يبق لي شيء؟ فقيل: بقي هذا.
وأنظر لأرى ما هذا الذي بقي، فإذا الرقاقتان اللتان أحسنت بهما على المرأة وابنها! فأيقنت أني هالك؛ فلقد كنت
أحسن بمائة دينار ضربة واحدة فما أغنت عني، ورأيتها في الميزان مع غيرها شيئا معلقا، كالغمام حين
يكون ساقطا بين السماء والأرض: لا هو في هذه ولا هو في تلك.
ووضعت الرقاقتان، وسمعت القائل: لقد طار نصف ثوابهما في ميزان أبي نصر الصياد. فانخذلت انخذالا شديدا،
حتى لو كسرت نصفين لكان أخف علي وأهون.
بيد أني نظرت فرأيت كفة الحسنات قد نزلت منزلة ورجحت بعض الرجحان.
وسمعت الصوت: ألم يبق له شيء؟ فقيل: بقي هذا.
وأنظر ما هذا الذي بقي، فإذا جوع امرأتي وولدي في ذلك اليوم! وإذا هو شيء يوضع في الميزان، وإذا هو ينزل بكفة
ويرتفع بالأخرى حتى اعتدلتا بالسوية. وثبت الميزان على ذلك فكنت بين الهلاك والنجاة.
وأسمع الصوت: ألم يبق له شيء؟ فقيل: بقي هذا.
ونظرت فإذا دموع تلك المرأة المسكينة حين بكت من أثر المعروف في نفسها، ومن إيثاري إياها وابنها على أهلي،
ووضعت غرغرة عينيها في الميزان ففارت، فطمت كأنها لجة، من تحت اللجة بحر؛ وإذا سمكة هائلة
قد خرجت من اللجة وقع في نفسي أنها روح تلك الدموع، فجعلت تعظم ولا تزال تعظم، والكفة
ترجح ولا تزال ترجح، حتى سمعت الصوت يقول: قد نجا!
وصحت صيحة انتبهت لها, فإذا أنا أقول:
"لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة!".







 
 توقيع :
قال تعالى {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً }النجم28

دائما النية الطيبة لاتجلب معها إلا المفاجآت الجميلة
لاتغيروا أساليبكم فقط غيروا نياتكم فعلى نياتكم ترزقون



رد مع اقتباس