ها هنا باعثٌ من الشهوة قد عجز أن يسموَ سموَّه _ وما سموُّه إلا الزواج _ فَتَسَفَّل وانحطَّ، ورجِعَ فِسقاً، وعاد
أَوَّلُهُ على آخره: كان أوله جُرْماً فلا يزال إلى آخره جُرْماً، ولا يزال أبداً يعودُ أولُه على آخره؛ فلما حملت المرأة
وفاءتْ إلى أمرِها، وذهب عنها جنونُ الرجلِ والرجلُ معاً؛ انطوتْ للرجال على الثأر والحقد والضغينة؛
فلا يكون ابنُ العارِ إلا ابنَ هذه الشرور _ أيضاً _.
والأمهاتُ يُعددْن لأجِنَّتهن الثيابَ والأكْسِيَة قبل أن يُولدوا، ويُهيِّئْن لهم بالفكرِ آمالاً وأحلاماً في الحياة، فيُكْسِبْنَهُم في
بطونهن شعورَ الفرَح، والابتهاج، وارتقابَ الحياة الهنيئة، والرغبة في السموِّ بها؛ ولكنَّ أمهات هؤلاء يُعدِدْن
لهم الشوارع والأزقة منذُ البَدء، ولا تترقبُ إحداهن طولَ أشهر حملها أن يجيئها الوليد، بل أن يتركها حيَّاً أو
مقتولاً؛ فيورِثْنهم بذلكَ وهم أجنَّةٌ شعورَ اللهفةِ والحسْرة والبغض والمقت، ويطبعنهم على فكرة الخطيئة
والرغبة في القتل، فلا يكونُ ابنُ العار إلا ابنَ هذه الرذائل _ أيضاً _.
وتظلُّ الفاسقة مدةَ حملها تسعة أشهر في إحساس خائف، مترقب، منفرد بنفسه، منعزل عن الإنسانية، ناقم، متبرّم،
متستر، منافق؛ فلو كان السَّفيحُ من أبوين كريمين لجاء ثُعباناً آدميَّاً فيه سُمُّه من هذا الإحساس العنيف.
ومتى ألقت الفاسقةُ ذا بطنها قطعتْه لِتوِّه من روابط أهلِه وزمنِه وتاريخِه ورمتْ به ليموت؛ فإن هلك فقد هلك، وإن
عاش لمثلِ هذه الحياة فهو موت آخرُ شرٌ من ذلك؛ ومهما يتولَّهُ الناسُ والمحسنون فلا يزالُ أوَّلُه يعود على
آخره؛ مما في دمهِ وطباعه الموروثة، ولا يبرحُ جريمةً ممتدَّةً متطاولة، ولا ينفكُّ قصةً فيها زانٍ
وزانيةٌ، وفيها خطيئةٌ ولَعنة.
فهؤلاء _ كما رأيتَ _ أولادُ الجُرأة على الله، والتعدي على الناس، والاستخفاف بالشرائع، والاستهزاء بالفضائل؛
وهم البغض الخارج من الحب، والوقاحة الآتية من الخجل، والاستهتارُ المنبعثُ من النَّدامة؛ وكلٌّ منهم مسألةُ شرّ
تطلبُ حلَّها أو تعقيدها من الدنيا، وفيهم دماءٌ فوَّارة تجمعُ سمومها شيئاً فشيئاً كلما كبروا سنةً فسنة.
قال أبو هاشم: ألا لعنة الله على ذلك الرجل الفاسق الذي اغتر تلك المرأة فاستزلَّها وهوَّرها في هذه المَهواة، أكان
حق الشهوة عليه أعظم من حق هذا الآدميّ؟ أما كان ينبغي أن يكون هذا الآخرُ هو الأول في الاعتبار،
فيعلمَ أن هذا اللقيط المسكين هو سبيلُه إلى صاحبته، وهو البلاغ إلى ما يحاوله منها؛ فيكون كأنما
دخل بين الاثنين ثالثٌ يراهما، فلعلهما يستحيان؟
قال الحوذيُّ الفيلسوف: لعنة الله على ذلك الرجل، ولعنات الله كلُّها، ولعناتُ الملائكة والناس أجمعين على تلك المرأة
التي انقادت له واغترت به، إن الرجل ليس شيئاً في هذه الجريمة، فقد كانت بصقةٌ واحدةٌ تُغرقُه، وكانت صفعةٌ
واحدةٌ تهزمه، وكان مع المرأة الحكومةُ والشرائعُ والفضائلُ، ومعها جهنمُ _ أيضاً _.
ألم تعلم الحمقاء أن الرجلَ الذي ليس زوجاً لها ليس رجلاً معها، وأن الشريعة لو أيقنت أنه رجلٌ لما حرمت عليها أن
تخالطه؟ إنه ليس الرجلُ هو الذي ساور هذه المرأة، بل مادةُ الحياة التي رأت في المرأة مُستودعها، فتريد أن
تقتحم إلى مقرها عنوةً أو خداعاً أو رضىً أو كما يتفق؛ إذ كان قانون هذه المادة أن توجد، ولا شيء إلا
أن توجد؛ فلا تعرفُ خيراً ولا شرَّاً ، ولا فضيلةً ولا رذيلة.
لأيهما يجبُ التحصين: أللصاعقة المُنقضَّة، أم للمكان الذي يُخشى أن تنقضَّ عليه؟
لقد أجابت الشريعةُ الإسلامية: حصنوا المكان،
ولكن المدنية أجابت: حصِّنوا الصاعقة!