11-07-2021
|
|
من الناس من يكون حبه لأولاده سببًا في إفسادهم
المعتز بالله الكامل
رحم الله عبدالملك بن مروان الخليفة الأموي حين قال: لقد أضر حبنا بالوليد (يعني ولده الوليد بن عبدالملك).
وذلك أن الوليد كان أكبر أبنائه، وكان يحبه حبًّا عظيمًا ولا يصبر على فراقه، فدفعه هذا إلى ألا يرسله إلى البادية في مدة رضاعه وطفولته؛ لينشأ قويَّ البنيان سليم اللسان من اللحن، فكان الوليد كثير اللحن، ورووا عنه في ذلك أشياء كثيرة، فمن ذلك:
أنه خطب يومًا على المنبر فقرأ: يا ليتها كانت القاضية (بضم تاء ليت)، فقال سليمان بن عبدالملك وكان حاضرًا: عليك وأراحنا الله منك.
وجاءه أعرابي يشكو صهره، فقال له الوليد: ما شأنك؟ (بفتح النون)، فقال الأعرابي: أعوذ بالله من الشين، فقال: فقال سليمان: أمير المؤمنين يقول: ما شأنك (بضم النون)، فقال الأعرابي: ختني ظلمني (ختني: صهري)، فقال الوليد: ومن ختنك؟ (بفتح التاء)، ومعنى ذلك من أجرى لك عملية الختان؟ فقال الأعرابي: ختنني الحجام ولست أريد ذا، فقال سليمان: أمير المؤمنين يقول: مَن ختنُك؟ (بسكون التاء)، فقال الواقف بالباب.
ويقولون: إن روح بن زنباع دخل على عبدالملك، فوجده حزينًا، فسأله، فقال عبدالملك: احترت فيمن أولي الخلافة من بعدي، فقال روح: وأين أنت من الوليد، فقال عبدالملك: إن العرب لا تولي عليها من يلحن في كلامها، (وكان عبدالملك من أفصح العرب ولم يلحن قط، وكان أحد ثلاثة لم يلحنوا قط لا في جد ولا هزل، هو والحجاج والشعبي).
ثم قال عبدالملك: رح على عشية فإذا حضر الوليد أعدت عليك حديثي، ورد عليَّ بمثل ما قلت، فلما كان العشي عاد روح، فلما رأى عبدالملك الوليد أعاد الحديث، ورد عليه روح بمثل ما قال، فلما سمع الوليد ذلك جمع النحاة وعلماء اللغة ودخل معهم بيتًا، وأغلق عليهم وعليه ستة أشهر يتعلم النحو واللغة، فلما خرج بعد ستة أشهر إذا هو أجهل منه يوم دخل، فلما رأى ذلك عبدالملك قال: أعذر الوليد من نفسه.
فهذا حب عبدالملك للوليد قد أضر به.
ومن الناس من يكون حبه لأولاده سببًا في إدخال الفساد عليهم، فهو لا يصبر على فراقهم، ولا يطيق البعد عنهم، فيمنعهم من الخروج لطلب العلم أو حفظ القرآن، وإذا سمح لهم بالذهاب، فأغلظ لهم الشيخ أو المعلم، منعهم من الذهاب لحلقته أو درسه، وإذا خرجوا من البيت لشأن من شؤونهم لا يطيق بعدهم عنه، فتارة يذهب معهم، وتارة يتبعهم بصره، فإذا غابوا عن عينه، تقطعت نفسه قلقًا عليهم، وإذا تأخروا عن أترابهم وَلِداتهم أقام الدنيا ولم يُقعدها، فتراه يقطع الأرض جيئةً وذهابًا، يسأل هذا ويسأل ذاك، حتى ليكاد يسأل عنهم النجوم السابحات في فلك السماء، ويظل قلبه في حالة كر وفر لا يثبت في مستقره إلا إذا رأت عينه صفحة وجوههم.
وتراه يخاف عليهم من الحسد فهو يقوم وينام لا يقرأ من القرآن إلا المعوذات، يقرؤها عند نومهم وعند قيامهم، وعند ذهابهم وعند إيابهم، ومع تكراره لها تراه إذا أصاب أحدهم سعال ردَّ ذلك إلى الحسد، وإذا عثَر طفله الصغير أثناء مشيه، فإنما ذلك لأن فلانًا نظر إليه، أو لأن فلانة رمقته ببصرها، وإذا أثنى عليه قريب بخير، فأُصيب بعدها بنزلة برد قامت القيامة، ووضع فلان هذا في القائمة السوداء، فهو شخص حسود كاد أن يهلك ولدي، فإذا جاءنا فلا يخرج أطفالنا للقائه، وإذا زرناه نترك الأولاد في بيتنا، لا نصحبهم معنا خشية الحسد.
وإذا صادف أولاده تفوقًا دراسيًّا، لم يحتفل، ولم يعلن الفرحة، وإذا مررت ببيته ظننته قد أعلن الحداد ونكس الرايات حزنًا على مصاب جلل، فهو يخشى أن يعلن نجاحهم فيحسدوا، وإذا احتفلوا بالنجاح أغلقوا الأبواب والنوافذ، وأطفؤوا الأنوار ومنعوا التصفيق، ويكون ضحكهم التبسم، وأكلهم بالأيدي؛ حتى لا يحس أحد بأصوات الملاعق وهي تغزوا أرض الأعداء (معذرة أعني الأطباق).
المواضيع المتشابهه:
|