الموضوع: خبز الفداء
عرض مشاركة واحدة
#1  
قديم 07-30-2011
الغزال الشمالي غير متواجد حالياً
لوني المفضل Cadetblue
 رقم العضوية : 218
 تاريخ التسجيل : Apr 2011
 فترة الأقامة : 5213 يوم
 أخر زيارة : 07-10-2013 (07:01 PM)
 المشاركات : 2,111 [ + ]
 التقييم : 119
 معدل التقييم : الغزال الشمالي will become famous soon enoughالغزال الشمالي will become famous soon enough
بيانات اضافيه [ + ]
شكراً: 0
تم شكره 2 مرة في 2 مشاركة
افتراضي



وانتهت مهمته في الخفارة. وعاد إلى عمله في تدريب طوابير الفتيان على حمل السلاح. وكان يستقبل طابوراً ويودع غيره حتى إذا هبط الظلام
حمل بندقيته ومضى إلى الغرفة الوحيدة التي يتألف منها بيته.. وعندها يجد وقتاً ليفكّر بها...لقد انقضى أسبوع ولم يرها خلاله
فأين عساها تكون... لماذا يحس بأنه مدفوع إلى الاهتمام بها؟ مدفوع إلى محبة القميص الذي حاكته؟.. ولقد انكشفت بالأمس
شيئاً، فحين قام يلبس في الصباح، حمل القميص في يده وراح يتأمله .. لقد عاش أياماً بين يديها وهي تبنيه غرزة على غرزة
دون أن تدري لمن يكون.. لعلها رسمت في ذهنها صورة للرجل الذي سيرتديه، وهي بالتأكيد قد اختارته أن يكون طويلاً عريض الكتفين..
رجلاً تعلٌّ عليه أمل البطولة.. والتفت إلى نفسه في المرآة المعلّقة على الحائط .. وتحسس ذراعيه المفتولتين:
وضحك على سخفه وهو يتأمل نفسه. ولكن أي ضير في أن يكون سخيفاً فيرفع مثلاً القميص ويشمه طويلاً ويقبّله أيضاً؟..ورآها في الطريق.
لم تكن في ثياب الممرضات.. فاعترض طريقها قائلاً:- كدت لا أعرفك فما كنت يوماً إلاّ بيضاء..وأعطته يدها فصافحها وقالت:
- لقد غادرنا المستشفى. إنني لا أجد ما أفعله اليوم. وأنت ماذا تفعل؟- طوابير تدريب في النهار، خفارة في الليل، ولا شاي! !
ورنّت ضحكتها الفضية.. وضبطته يتطلّع إليها فاحمرّت .. وهمّت بأن تمضي وبسرعة قبل أن يضعف أمام، خجله سألها شيئاً:
- أرجو ألاّ تظنيني وقحاً... هل أستطيع أن أراك في مكان ما...؟- بلدتنا أصغر من أن تتسع لنا..- ولكننا إخوان سلاح..
إنني أدرّب طوابير من الجنسين على استعمال البندقية.. تعالي إلى نادي الميناء سنتحدّث قليلاً بعد أن أفرغ من التدريب...
واتفق على حضورها في الثالثة، ثم انهمك في تدريب طابور ناعم كيف يقف وقفة لا ترتعش تحت بندقية ثقيلة.. ولمحها تدلف..
فتجاهلها حتى انتهى وصرف تلميذاته واتجه يحييها ويقدّم لها كرسياً ويسحب لنفسه آخر..- ألست متعباً؟..- وأينا لا يتعب؟..
ولكني بعد أن عرفت ما يدور في مستعمرات الصهاينة من تـأهب وتعبئة تمنيت لو كان يومنا ستين ساعة..
إن أمامنا عمليات رهيبة.- أخائف أنت؟..
- متحسّبٌ ..لسنا في موقف هيّن.. يخيّل إليّ أن اليهود زرعوا مواسمهم أسلحة، وملأوا بطون مستعمراتهم بها، لقد اكتشفنا أشياء كثيرة...
- هل ذهبت بنفسك؟..- كثيراً قبل أن يتوتّر الموقف.. أما الآن فلا أستطيع، إنني على لائحتهم السوداء..
ورآها تتأمله ثم انفرجت شفتاها وتألّقت في عينيها تلك النظرة الحازمة...- أتدري لقد بتّ أصدّق أنك بطل؟..
- بطل.. لا أظن.. ولكن بطاقتك توحي إليّ بأن أكون...- أما تزال محفتظاً بها؟...
- هي ذي.وأعطاها لها، ولما مدّ يده ليسترجعها ضغط على يدها قليلاً ثم أرخاها، وتركها تداري خجلها متطلّعاً إلى البحر الأزرق أمامه.
كان الوقت ربيعاً، وربيع فلسطين بحر أزرق تتهادى عليه أشرعة المراكب البيضاء نهاراً، وترصّعه فوانيس قوارب الصيد ليلاً، وبساتين
برتقالٍ يكثّف عبقُها الهواء.. وفي ربيعها ذاك عرف شيئين .. الحب والحرب.، وكان الأول يعطي معنى للثاني، فالحرب ليست
عدواً يقتل لشهوة، إنما هي حق حياة للأرض التي يحب، والفتاة التي يحب، إن فلسطين ليست بحراً ومراكب صيادين، وليست
برتقالاً يتعلّق كالذهب، وليست زيتوناً وزيتاً يملأ الخوابي.. إنها عينا سعاد السوداوان أيضاً. وفي عينيّ سعاد رأى خير فلسطين
كله، رأى ظلّ بيت سعيد له. وزوجة تنجب له أبطالاً صغاراً وتجعل من حبها معنى لوجوده.ومع كل إطلالة صباح ..
كان يستقبل خيالها.. جنباً إلى جنب مع أنباء المعارك في صحف الصباح. ..معركة القسطل، هجوم قومه من مثلث الرعب على قرى الأعداء..
غاراته وإخوانه على المصفّحات اليهودية المتسلّلة على طريق حيفا – عكا نهاريا، بطولة قومة على سلمه، في كل مكان...
ثم كانت كارثة حيفا..لن ينسى ذلك المساء..كان مشغولاً بصفّ التدريب..حين التفت إلى البحر فإذا بعشرات المراكب المحمّلة بالناس..
وتجمهر أهل مدينته على السور وفي منطقة الميناء يستطلعون .. كانوا على علم بالمعارك التي تدور في حيفا، وكانوا يدرون
أن سلطات الإنتداب قد مكّنت الصهاينة من المراكز المحصّنة سراً، في حين ادّعت أنها لن تتخلّى عن المدينة إلاّ بعد فترة الانتداب بشهور،
ولكنها فجأة أعلنت عن اضطرارها لإخلاء المدينة.وانصبّ الهول من الكرمل على العرب الذين يعيشون في السفوح،
ومهّدت السلطة لحالة ذعر بحرب إشاعات فتحت معها الميناء، وأطلقت سفنها تحمل كل راغب في رحيل، فتكدّسوا فيها والنار
تلفظ هولها عليهم من الجبل..ولفظتهم السفن على ساحل عكا.. كتلاً بشرية.. يئن بعضها من الجروح وبعضها من الجوع، وبعضها
من الفزع.وامتلأ بيوت مدينته، مساجدها، أديرتها، ساحاتها بهم..وتحمّلت مدينته الصغيرة عبء تدبير طعام ومأوى لهذه الآلاف..
وفي تلك الليلة رأى سعاد مع عشرات المتطوعات يستقبلن الجرحى في الميناء ويوزعنهم على المستشفيات والبيوت..
وبدأت حرب الإشاعات تلعب لعبها في الأعصاب...استيقظ في صباح اليوم التالي على قرع شديد على باب غرفته، وفتح
الباب وذهل إذ رآها..كانت تبكي..قالت له أن أخاها قد دبّر شاحنة حشد فيها كل ما يُحمل ثم وضع فيها زوجته
وأطفاله ونفسه ليرحلوا للبنان... وأن عشرين أسرة من حيّها قد فعلت مثله...وقد فرض عليها أن تصحبهم فرفضت، وقاومت
فضربها، فلم تجد أمامها إلاّ الفرار.إنها آخر من يسافر...وأذهلته المفاجأة .. لم يدر ما يقول لها وظلّ صامتاً، ولما قرعت صدره بقبضتها سأل:
- هل فعلت هذا بسببي؟وانفجرت في وجهه:- لا ليس بسببك.. صحيح أنني أحبك... ولكنك لست كل شي؟قالتها وانصرفت..
وفتح الباب وخرج إلى المدينة..عشرات السيارات كبيرة وصغيرة، محمّلة وفارغة، أطلقت دواليبها للريح.. وخلّته مذهولاً..
لا يدري هل يبكي، هل يصيح، هل يقذف هذه السيارات بحجارته؟..وفي أسبوع فرغت المدينة إلاّ من شاكي السلاح..
ومن بضع ممرضات موزّعات على المستشفيات الصغيرة، ومن النازحين إليها من حيفا أو القرى، ولم يعد يجد وقتاً للقاءاته بسعاد..
فأعداؤه في الشمال وفي الجنوب يتربصون الفرص ليطبقوا على المدينة.. كان في النهار يتسلل إلى القرى يجمع البنادق
والذخيرة، أما لياليه فللحراسة مع خمسة غيره يقبعون وراء المتاريس المقامة على ظهر مصنع للسجائر تعطّل فيه العمل،
كان لا بدّ للمدينة من الصمود حتى تبدأ معركة أخرى على مستوى جيوش بعد انتهاء فترة الانتداب..
هذه هي مهمته التي رسمتها اللجنة القومية للمدينة.. وحين كان يجد وقتاً يسترخي فيه، كان يجد وقتاً ليفكّر بسعاد وليتساءل
كيف تراها تعيش. وتحت أي ظروف. وصعق مرة حين رآها أمامه...كانت تلتف بمعطف وقد حملت صرّة كبيرة..





 توقيع :
قال تعالى {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً }النجم28

دائما النية الطيبة لاتجلب معها إلا المفاجآت الجميلة
لاتغيروا أساليبكم فقط غيروا نياتكم فعلى نياتكم ترزقون


رد مع اقتباس