الكاتبُ ليس ناقلًا للكلماتِ ولا جامعًا للجملِ، بل هو مرآةٌ صقيلةٌ تعكسُ همومَ أمتِه، وضميرٌ نابضٌ يشرحُ ويحللُ وينقدُ ويبني. الكتابةُ عندهُ ليست حرفةَ اليدِ وحدها، بل هي فعلُ وجودٍ يَنبُعُ من أغوارِ الفكرِ وخلجاتِ الوجدانِ. فلا يكتبُ لمجرَّدِ أن يملأَ الصفحاتِ، بل لأنَّ في صدرِه فكرًا يثورُ، وقلقًا لا ينامُ، وأسئلةً لا تنفدُ. هو حاملُ مشعلِ الكلمةِ في ديجورِ الجهلِ، وحارسُ الحقيقةِ في مواجهةِ التزييفِ والبهتانِ.
والكاتبُ الحقُّ قد لا يكونُ صاحبَ كتابٍ منشورٍ أو عمودٍ في صحيفةٍ، بل هو كلُّ صاحبِ قلمٍ يبتغي بكتابتِه يقظةَ العقولِ، وصاحبِ رؤيةٍ تسعى لفهمِ هذا الوجودِ أو تغييرِ مجراهُ. هو الذي يبصرُ ما غابَ عن الأعينِ، ويسمعُ همسَ ما لم يُجهرْ بهِ، ويحوِّلُ تجاربَ الناسِ وأفراحَهم وأتراحَهم إلى نصوصٍ تَقرأها العيونُ وتتأملُها القلوبُ.
الكاتبُ يُفكِّرُ بصوتٍ عالٍ مسموعٍ، نعم! ولكنَّه أكثرُ من مُفكِّرٍ؛ فهو إنسانٌ تُثقلُ كاهلَهُ همومُ البشرِ، وتُهيمنُ على روحِه سِحرُ المعاني، وتُطاردهُ مسؤوليةٌ جسيمةٌ تجاهَ ما يخطُّه بنانُه، وتجاهَ من يقرأُ له ويُمعنُ النظرَ في فكرِه. ففكرةُ الكاتبِ هي المنبَعُ الأولُ للكتابةِ، وهي الأفقُ الذي يتطلعُ إليهِ. وما يملأُ الكاتبَ ليس فكرةً وحيدةً، بل شبكةٌ مترابطةٌ من الأسئلةِ المصيريةِ، تتحولُ مع الأيامِ إلى مواقفَ ثابتةٍ، ثم إلى رؤى ناضجةٍ تتجسَّدُ حروفًا وكلماتٍ.
لا يرضى الكاتبُ الحقيقيُّ بالظاهرِ الهشِّ، بل يغوصُ في الأعماقِ بحثًا عن الجوهرِ. لا يقفُ عند حدودِ الواقعِ المرئيِّ، بل يستفهمُ عن الممكنِ والمأمولِ. وهنا يصيرُ الفكرُ سلاحًا للمقاومةِ في محطاتِ التاريخِ المصيريةِ؛ إذ كان الكتّابُ صوتَ المظلومينَ، وكاشفَ جرائمِ المستبدينَ. فالفكرُ الذي يفيضُ بهِ الكاتبُ يتحولُ إلى مقاومةٍ ناعمةٍ، وتمرُّدٍ حكيمٍ يُحطِّمُ قيودَ الطغاةِ ببلاغةِ البيانِ وفصاحةِ اللسانِ.
والكاتبُ فيلسوفٌ من غيرِ أن يَدَّعِيَ الفلسفةَ؛ فكتاباتُه سفرٌ في تأملاتٍ عن الحياةِ والموتِ، والحبِّ والوجودِ، والزمنِ والحريةِ. وكما عند كامو العظيمِ وجبرانِ الخالدِ، تصيرُ الكتابةُ سؤالاً مفتوحًا على الكونِ، لكنَّه فكرٌ لا يستسلمُ، بل يحلمُ بتغييرِ العالمِ إلى الأجملِ والأكملِ.
الكاتبُ حاملُ حلمٍ ثقيلٍ؛ حلمٌ بمجتمعٍ أرَقى، ووعيٍ أصفى، وعدالةٍ أوسعِ. وكتاباتُه محاولةٌ دؤوبةٌ لتقريبِ هذا الحلمِ البعيدِ من أرضِ الواقعِ. هو مصلحٌ بلا منبرٍ رسميٍّ، لكنَّه يبني منابرَ خالدةً من حروفِه وكلماتهِ، لأنَّه يحملُ أمانةَ الفكرِ ورسالةَ الكلمةِ.
أن يمتلئَ الكاتبُ بالفكرِ يعني أنَّ كتابتَه ليست عبثًا، وأنَّ كلَّ حرفٍ يسطرهُ يزيدُ في رصيدِ مسؤوليتِه الأخلاقيةِ والفكريةِ. وفي زمنِ الضجيجِ الإعلاميِّ وسطحيةِ العالمِ الرقميِّ، يعلو شأنُ الكاتبِ الواعي الذي يدركُ أنَّ كتابتَه ليست حروفًا فحسبُ، بل موقفٌ شجاعٌ، وضميرٌ حيٌّ، ونورٌ يُبدِّدُ الظلماتِ.
وهي مسؤوليةٌ جليلةٌ أمامَ الحقيقةِ والقارئِ والزمنِ. على الكاتبِ أن يصدعَ بالحقِّ ولو كان مرًّا، ولو خالفَ التيارَ، أو أغضبَ السلطانَ، أو ناقضَ الرأيَ العامَّ. فكرُه شمعةٌ لا تُطفئُها رياحُ المصالحِ، بل تظلُّ تُضيءُ دربَ الحقيقةِ إلى أن يرثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها.
الكاتبُ الجيدُ لا يستهينُ بعقلِ قارئِه، ولا يقدمُ له فكرًا مُعلَّبًا جاهزًا، أو كلامًا مُزيَّفًا أجوفَ. إنَّه يعلمُ أنَّ كلَّ نصٍّ يَبني وعيًا أو يهدمُه، وأنَّ عليهِ أن يرفعَ بالقارئِ إلى ذُرى المعرفةِ، لا أن يُغرقَهُ في مستنقعِ التفاهةِ والسطحيةِ.
الكاتبُ الحقيقيُّ يكتبُ بلغةِ عصرِه، لكنَّ أثرَهُ يتخطى حدودَ الزمانِ. فكرُه خالدٌ لا يحدهُ قرنٌ ولا جيلٌ، بل يمتدُّ عبرَ الدهورِ حاملًا رسائلَ إنسانيةً لا تبلى ولا تموت.
وهذا كلهُ يحتاجُ إلى توازنٍ دقيقٍ بين العزلةِ والتفاعلِ؛ ففي داخلِ كلِّ كاتبٍ محرابٌ من الخلوةِ العميقةِ، تسمحُ لهُ بالتأملِ والغوصِ في أعماقِ الذاتِ، لكنَّها ليست عزلةً هاربةً من الناسِ. إنَّه يعيشُ بينهم، يتألمُ لألمِهم، يفرحُ لفرحِهم، لكنَّه يحتاجُ إلى أن ينفردَ بذاتِه ليترجمَ المشاعرَ الخفيةَ والأفكارَ العميقةَ إلى كلماتٍ مضيئةٍ. فهو كائنٌ اجتماعيٌّ بفطرتِه، متأملٌ بروحِه، يرى بعينِ الجميعِ لكنَّه يكتبُ برؤيةٍ فريدةٍ.
فالكاتبُ بفكرِه الثرِّ وعطائِه الصادقِ هو عمادٌ من أعمدةِ المجتمعِ الحيَّةِ، يُبقيهِ يقظًا متنبِّهًا. في زمنِ التزييفِ والضجيجِ، تبرزُ قيمةُ الكاتبِ الذي لا يبيعُ قلمَهُ، ولا يُغلقُ بابَ فكرِه، بل يواصلُ الكتابةَ كأنَّ على كلمتِه يتوقفُ مصيرُ العالمِ. امتلاءُ الكاتبِ بالفكرِ ضرورةٌ لا رفاهيةٌ، والكتابةُ المسؤولةُ رسالةٌ خالدةٌ لا مجرَّدُ مهنةٍ عابرةٍ
منذ يوم مضى
شمائل كاتب
| 
|
(عرض التفاصيل)
عدد الأعضاء الذين شاهدوا الموضوع : 2
(إعادة تعين)
العرض العادي
