~{فعاليات منتديات وهج الذكرى}~ | |
|
![]() |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
|||||||||||
|
|||||||||||
![]()
عندما كنا صغاراً ، كان الجبل الشاهق في نهاية السهل الواسع ، الذي تقع بالقرب منه قريتنا ، يعتبر في نظرنا نهاية الدنيا ، وكانت الأعشاب الشوكية الطويلة تنمو على جانبي الطريق ، ولقصر قاماتنا ، كنا نسميها (غلبة) ، والجنادب والسحالي والحلزون وحوشها وطيورها المسالمة المغردة ، نعتبرها نسوراً وشواهين , وكان جدي يقودنا مشياً على الأقدام ويخوض بنا تلك الأعشاب ، ويتوقف عند كل نبتة غريبة ، ليعرفنا بها ويعدد فوائدها ويجعلنا نشتم رائحتها لنميزها عن غيرها ويصعد بنا التل المغطى بأشجار الزيتون ونحن نظنها الجبل العالي, ويفسر لنا عند كل شجرة ثمرها وطعمها , ونشأنا نحب الأرض الخضراء ونسرّح فيها النظر ، ونحب الجبل والوادي ولا نطيق فراقه , وظل جدي يصحبنا في رحلاتنا تلك إلى أن شاخ ، ولم يعد يقدر على الصعود والنزول .
وفي مرة من المرات ، كنا نمشي معه ، فعجبنا كيف أنه رغم كبر سنّه ووجع عظامه كان ينحني ليلتقط قطعة من الخبز كانت ملقاة على الطريق فيزيل ما علق بها من الأتربة والأوساخ بملابسه ، وربّما يلثمها بشفتيه ، ويرفعها قريباً من جبينه ثم يضعها بعناية واحترام فائق على حجر نظيف على جانب الطريق , وعندما كنا نسأل لماذا فعل هذا , كان يقول : ربّ إنسان جائع أو طائر أو نملة تجد رزقها فيها , وكنا نسكت . وفي يوم من الأيام قال أخي لجدي : وهل يوجد إنسان جائع الى الحدّ الذي يأكل فيه قطعة خبز ملوثة بالتراب ؟ قال جدي : وهل تدوم النعم ؟ فالحياة ليست دائماً قمراً وربيعاً مضيئاً مشرقاً . تأتي أيام على بعض الناس يشتهون فيها مثل هذه القطعة ولا يجدونها . ويضيف أخي متسائلاً : وهل حدث ذلك في زمانك يا جدي ؟ قال الجد : نعم , في أيام " السفر برلك " بعد أن ألقى الجندرمة الترك القبض علي ، بدلاً من أبي الذي كان مطلوباً للجندية وهارباً لرفضه تسليم نفسه ، لأنه انضم " للثورة على الأتراك " حوّلوني للجندية , وهناك التقيت في بلد بعيد مجموعة من الناس مختلفة الأجناس ، وساقونا لبلد لا نعرف عنه شيئاً , حصد رصاص القوم بعضنا ، ومات أكثرنا بالأمراض المهلكة ولم يبق من مجموعتنا إلا ثلاثة في خندق واحد . هم شاب مصري مترف وهو الأعلى رتبة , ورجل في الأربعين من العمر شامي ألقي القبض عليه في أحد أسواق دمشق ، وكان مشرّداً , وقد أذاقته الحياة الجوع ، فوجد في الجيش ضالّته , وأنا الفتى الغرّ الجاهل في ذلك الوقت . حوصرت قوتنا على تلّ قريب من البلدة ، وقطع عنا التموين والإمداد ، وأصدر القائد التركي أمراً بالحرص على ما معنا من غذاء وماء , فإن متنا في الحرب فـ " بركات أولسن " وإلا فإننا سنموت من الجوع والعطش " بيم بركات أولسن " , وحرصاً منا على ما معنا من قوت وماء بقينا بلا أكل مدة ثلاثة أيام , وفي اليوم الثالث مدّ الشاب المصريّ المترف يده وأخرج قطعة من الخبز كانت مخفية في جيب سترته العسكرية , ولأنها يابسة عافتها نفسه ، فرمى بها بعيداً . وقعت عين الرجل الأربعيني عليها ، ثم التقطها مخاطراً بنفسه , ومسح ما علق بها من تراب وأعشاب ، واحتضنها , فقد كان أكثرنا خشية من الموت جوعاً ، والفقر أحياناً يولّد الشّراهة ، كما يولد عند البعض الاقتصاد والنزاهة , ونظر الى الشاب المترف وسأله : ألا تريدها ؟ قال الشاب متأففاً : لا فهي يابسة كالحجر ، ولو ضربتها بيهودي لأعلن إسلامه , قال الأربعيني : شكراً . نظر الشاب المترف نحوي وقال ساخراً : على ماذا يشكرني هذا المغفّل ؟ هل فعلت له ما يستحق الشكر ؟ لا فأنا لا استحقه . في تلك الليلة كانت قرعة الحراسة على الشاب الأربعيني ثم الشاب المترف ثم أنا , وسهر الأربعيني ثلث الليل حارساً ، وعندما جاء ليوقظ بديله وجده في يغطّ في نوم عميق ، مرتاح الضمير كمن عمل إحساناً , فرفض إيقاظه رداً لجميله ومضى مرة أخرى ليحرس بعيداً عنا ، وقبل أن تأتي نوبتي ، هدرت المدافع وانطلقت زخة من الرصاص ، أعقبها هدوء عميق , ومع شروق الشمس ، كنا نتفقد خطوط المواجهة ، فوجدنا ذلك الرجل قد قتل ويده ما زالت تقبض بقوة على قطعة الخبز الجاف والأخرى على السلاح. فقد الشاب المترف أعصابه وبكى ، وهو يقول : لقد أنقذ حياتي بثمن رخيص ، مات عني ولم أكن أعلم أن حياتي تساوي قطعة من الخبز الجاف ، ويا ليته أكلها , ومن يومها إلى الآن ما رأيت قطعة من الخبز إلا ورفعتها احتراماً لذكراه , ولما رفع عنا الحصار ، هربنا من الجيش ، وأعطانا بعض من مررنا بهم ملابس مدنية ، وبعد مخاطرات طويلة ، وصلنا إلى بلدتنا وكانت أمي في استقبالنا ولم تصدق عيونها بأني حي ، وقد كدنا نهلك من الخوف والتعب والجوع ، فجلبت لي العشاء وهو صحن من اللبن وعليه قليل من الزيت ، وكان في الدار قطعة من خبز " الكردوش " وهو خليط من دقيق الشعير والذرة البيضاء ، وكان أقسى من الحجر ، وبدأنا نغمس قطعة الخبز اليابس باللبن الممزوج بالزيت ، والذي لم يكن يعلق على الخبز منه شيء ، إذ سرعان ما يتزحلق عنه , ومع ذلك قال صاحبي المترف ، لم أذق في حياتي طعاماً أشهى منه ، وسأظل أذكره مدى العمر ! . __________________________________ المواضيع المتشابهه: |
![]() |
كاتب الموضوع | فتنه حرف | مشاركات | 4 | المشاهدات | 2294 |
![]() ![]() ![]() | انشر الموضوع |
![]() |
|
لا توجد أسماء لعرضهـا. |
|
|